توحيد الله

بسم الله الرحمن الرحيم

توحيد الله

الحمد لله الذي هدى العباد إلى سواء السبيل، أحمده سبحانه، قسَّم الخلق بعدله وحكمته، بين سعيد سار على نهج الهدى، وشقي أفنى العمر في التضليل والعمى، وهو يظن أنه على صراط مستقيم، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، الرب العظيم الجليل، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، قامع كل بدعة، ورافع كل سنة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد: فسبحانك اللهم ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت، ما عبدناك حق عبادتك، سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت، ما عرفنا قدرك وما قدرناك حق قدرك، سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت، الحي الذي لا يموت، والإنس والجن يموتون، سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت، تعلم مثاقيل الجبال، ومكاييل البحار، وأنت الله لا إله إلا أنت العزيز الجبار، سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت، الخير كله بيديك، والشر ليس إليك، مصير كل أحد إليك، ورزق كل أحد عليك ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ .

عباد الله: هذا الإمام عبد الرحمن بن مهدي لقي فتى من ولد الأمير جعفر بن سليمان فقال له: بلغني أنك تتكلم في الرب سبحانه، وتصفه وتشبهه، قال: نعم، نظرنا فلم نر من خلق الله شيئا أحسن من الإنسان، فأخذ يتكلم في الصفة والقامة، فقال له ابن مهدي: رويدك يا بني، حتى نتكلم أول شيء في المخلوق، فإن عجزنا عنه، فنحن عن الخالق أعجز، أخبرني عن قول عبد الله في قول الله ﴿لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى﴾ قال: رأى جبريل له ست مائة جناح. فأخبرني عن ذلك؟ فبهت الغلام وبقي ينظر ويتأمل، فقال له ابن مهدي: أنا أهوِّن عليك، صف لي خلقا له ثلاثة أجنحة، وركب الجناح الثالث منه موضعا حتى أعلم، فقال الغلام: يا أبا سعيد، عجزنا عن صفة المخلوق، فأشهدك أني قد عجزت ورجعت.

عباد الله: لقد تأصل في قلوب العارفين، والأئمة المهديين، وعقول المنصفين من المؤمنين، أنه لا شيء أعظم من الحديث عن توحيد الله تبارك وتعالى ﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ .

قال الإمام يحيى بن عمار : "العلوم خمسة: علم هو حياة الدين، وهو علم التوحيد، وعلم هو قوت الدين، وهو العظة والذكر، وعلم هو دواء الدين، وهو علم الفقه، وعلم هو داء الدين، وهو ذكر أخبار ما وقع بين السلف، وعلم هو هلاك الدين، وهو علم الكلام" أ.هـ

ولا ريب أن التوحيد هو حياة الدين كله، لأنه أول شيء يدخل به المرء الملة، وقد بعث النبي معاذا إلى اليمن وقال: فليكن أول ما تدعوهم إليه، شهادة أن لا إله إلا الله " وجعل الله جل وعلا القول بالتوحيد، والنطق به والاعتقاد، المدخل الأعظم لدينه، كما جعل في الخاتمة أن من كان آخر كلامه الاعتقاد والتلفظ به، كان حق على الله أن يدخله الجنة، قال : «من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة».

وكما أن توحيد الله جل وعلا أعظم الحسنات، فعلى النقيض من ذلك جعل النبي الشرك بالله أكبر الكبائر، وأعظم السيئات، فقال بعد أن سأله عبد الله بن مسعود: أي الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندا وقد خلقك» .

عباد الله: لقد نعى الله على أهل الإشراك من اليهود والنصارى، وكفار قريش وسائر الكفرة، أنهم جعلوا لله شريكا، وزعموا له ولدا، واتخذوا معه ندا، وما بعث الله نبيا ولا رسولا، إلا وجعل التوحيد أعظم ما يدعوا به أممهم، ولهذا كانت الخصومة قائمة بين الأمم وبين رسلهم، في قضية توحيد الله وإفراده بالعبادة، قال لمعاذ: «أتدري ما حق الله على العباد»، قال: قلت الله ورسوله أعلم، قال: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا».

ولقد اتفقت كلمة الأنبياء والمرسلين، من لدن آدم عليه السلام إلى محمد، على أن دين الخلائق كلهم، الذي يقبله الله جل وعلا منهم، هو توحيده وإفراده بالعبادة وحده دون سواه.

 قال العلامة ابن القيم:

هو دين رب العالمين وشرعه *** وهو القديم وسيد الأديـان

هو دين آدم والملائك قبله *** هو دين نوح صاحب الطوفان

هو دين إبراهيم وابنيه معا *** وبه نجا من لفحة النيـــران

وبه فدا الله الذبيح من البلا *** لما فداه بأعظم القربـــان

هو دين يحيى مع أبيه وأمـه *** نعم الصبي وحبذا الشيخـان

وكمال دين الله شرع محمد *** صلى عليه منــزل القـرآن

فالرسل أجمعون، والأنبياء معهم والصالحون، على هذا الطريق إلى أن يلقوا الله، لأن الله جل وعلا لا يقبل من أحد صرفا ولا عدلا، حتى يقيم توحيده تبارك وتعالى، ولهذا كانت عناية الرسل والأنبياء والصالحين من بعدهم عند الموت، أنهم يوصون من بعدهم، بأن يفروا من الشرك، وأن يلتزموا توحيد الله بالعبادة دون سواه، لعلمهم أنه لا ينفع عند الله جل وعلا عمل، ما لم يقم العبد قولا ومعنا، لفظا وعقيدة، توحيد الرب تبارك وتعالى، قال سبحانه ﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ المَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ .

فاللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، آمنا بمثل ما آمنوا به، فاغفر لنا واحشرنا في زمرتهم يا كريم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله:

عباد الله: شر البلية ضلال بعد هدى، وعمى بعد بصيرة، وغي بعد رشاد، ولقد خلق الله الخلق يميلون بفطرهم إلى التوحيد – دين الفطرة -، فانحازت الشياطين بفريق منهم، وحولوهم عن الهدى، وانحرفوا بهم عن مسلك الرشاد، يقول سبحانه في الحديث القدسي «خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين». ولما كان الأمر بهذه المثابة، جاء الإسلام مانعا من كل ما يكون سببا للإشراك بالله، لا نتوكل إلا على الله، لا نذبح إلا له، لا ننذر إلا له، لا ندعو إلا إياه، لا نطلب العون إلا منه، من حلف بغير الله فقد أشرك، لذا لما سمع النبي رجلا يحلف بأبيه قال : «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآباءكم من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» وفي رواية : «فقد كفر أو أشرك».

عباد الله: ما من أحد إلا وهو عرضة للمرض والسقم، وقد أمرنا بالتداوي، ولكن نهينا عن تعاطي الأسباب المحرمة، لمَّا رأى النبي على يد رجل حلقة من صفر، قال له: «ما هذا؟» قال: من الواهنة – نوع من المرض – قال: «انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنا، إنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا». فأي فائدة تحصل من خيوط تربط، أو خرز يجمع، أو حلقة توضع في اليد أو الرجل، أو حجب أو حروف مقطعة، كل ذلك شرك وضلال، وفساد في الفطر والعقول. وقد جبل الإنسان على الذهاب إلى أصحاب العلاج والأطباء، غير أن النبي قال: «من أتى عرافا فسأله عن شيء، لم تقبل له صلاة أربعين يوما». وقال: «من أتى كاهنا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد».

نهينا عن التشاؤم بالأيام والشهور، والمرضى والطيور، قال : «لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر».

عباد الله: أرأيتم هذه السموات كيف عظمتها، كيف قامت بدون عمد، أرأيتم هذه الأرض كيف استوت بهذه الأوتاد، أرأيتم هذه الجبال وعلَّوها وعظمتَها، ما مالت ولا سقطت منذ أن خلقها الله، كل هذه الثلاثة يختل نظامها، وتهتز أركانها، ويفسد أمرها، إذا وقع في الأرض أمر يخالف فطرة الله ﴿أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِّنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ واقرؤا وتأملوا قول الله ﴿تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَداًّ﴾ ما سبب ذلك ﴿أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً (91) وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً﴾. ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ﴾ لا يقدر على هذا إلا الله، وهذا من أعظم الأدلة والبراهين، على كمال صنعته، وعظيم وحدانيته، وجلال ألوهيته، لا رب غيره، ولا إله سواه، ولذلك كان التوحيد نور يقذفه الله في قلب من يشاء. يقول الله جل وعلا ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ﴾.

فاللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، أحينا على التوحيد سعداء، وأمتنا على التوحيد شهداء.