الوفاء بالعهد

بسم الله الرحمن الرحيم

الوفاء بالعهد

عباد الله: الإنسان في هذه الحياة لابد له من الارتباط بغيره، والتعامل مع سواه, وكلما كان الإنسان شريفا في صلته بالناس, أمينا في معاملته لهم, علت مكانته، وسعد في حياته وآخرته. ولا يستطع الإنسان أن يجعل معاملته لغيره سامية فاضلة، إلا إذا تحلى بمكارم الأخلاق, وفي طليعة هذه المكارم: خلق الوفاء.

الوفاء: خلق جميل, من شيم الكرام وأخلاق المؤمنين, العهد ميثاق له حرمته وقيمته, فلا يستطيع الإنسان التهرب من أدائه، أو التخلص من الوفاء به, بل لا بد له من تنفيذ العهد، والوفاء بالوعد، مهما كلفه ذلك من جهد. قال عليه الصلاة والسلام: «المسلمون عند شروطهم» فهم لا يُخلفون كلمة أعطوها، ولا ينقضون عهدا أبرموه، ولا يخرمون وفاء عهد عقدوه, ولا ينكلون عن شرط التزموه، أو نذر أوجبوه.

الوفاء من الإيمان, ولا دين لمن لا عهد له, كما أن خلف الوعد, ونقض العهد، من علامات النفاق، ودلائل المكر والخبث وفساد القلب، فالمنافق إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان. الوفاء ميزان يعرف به الطيب من الخبيث, والفاضل من السفيه, والمؤمن من المنافق, فمن وفى وعده، والتزم شرطه، وصان عهده، كان رجلا مؤمنا فاضلا، يستحق التقدير والاحترام, ومن غش وغدر وخان، كان نذلا جبانا منافقا، حقير النفس مائع الخلق.

عباد الله: الوفاء أشكال وألوان, وفاء لله سبحانه وتعالى, ويكون بالإيمان به, والخضوع له, واتباع أوامره، واجتناب نواهيه، والتحقق بكمال العبودية له. وفاء للرسول, وذلك بمحبته واتباع سنته, والاهتداء بهديه, والاقتداء بشمائله وأخلاقه. وفاء للعقيدة بالثبات عليها, والدعوة إليها، وفاء في المعاملة، بصدق اللهجة والأمانة، وحفظ الحقوق والسماحة.

ولقد اهتم القرآن بأمر الوفاء، وحرض عليه وأمر به، قال تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ وقال سبحانه ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً﴾ وقل جل ذكره: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾ وقال : ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لآمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾ وجعل سبحانه الوفاء صفة من صفاته, فقال: ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ﴾. ومن أوضح ألوان الوفاء: الوفاء بقضاء الدين إذا حل أجله، وجاء موعده, قال : " من أخذ أموال الناس يريد أداءها, أداها الله عنه, ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله".

ولنا في سلفنا أسوة حسنة، وأمثلة حية خالدة، بل كان العرب مضرب المثل في الوفاء قبل الإسلام.  ولقد ذكر الله تعالى رجالا من المؤمنين, عاهدوا الله عز وجل، لئن أشهدهم مع النبي قتال المشركين، ليجاهدن صابرين محتسبين، مقبلين غير مدبرين. فوفوا بعهدهم, وصدقوا الله في وعدهم, فما جبنوا ولا ضعفوا ولا استكانوا، بل مضوا قدما يهدمون قواعد الشرك, حتى ذاقوا حلاوة الشهادة, فمضوا إلى ربهم راضين مرضيين, قال الله: ﴿مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً

عباد الله: الوفاء يكون في الوعد بالأمور الصالحة, والأشياء المباحة المشروعة، فإذا أعطى الإنسان وعدا بمعصية أو ضرر, أو عقد عهدا بشر أو عدوان, لم يكن الوفاء بهذا من شيم الرجال, ووجب عليه أن لا يفي بعهده, بل ينصرف عنه إلى ما هو أجدى وأطهر, وخير وأبقى، وأحمد عاقبة في الحال والمآل.

وبعد: فالوفاء عباد الله من أبرز صفات النبي  وأخلاقه، وجدير بكل مسلم أن يكون وفيا في حياته، وفيا تجاه ربه ودينه, وفيا تجاه مجتمعه وإخوانه, وفيا تجاه الأمة والحق، والأمانة والصدق.

الخطبة الثانية:

الحمد لله:

عباد الله: جاءت دعوة الإسلام بالوفاء بالعهود قوية صريحة. والعهد كل ما يلتزمه الإنسان باختياره، من أمور الدين، كالإيمان بالله، والتكاليف الشرعية التي جاء بها النبي فعلا أو تركا, أو من أمور الدنيا، وهو ما يقع بين كافة الناس، من عهود ووعود، والوفاء بالعهود من لوازم سعادة الإنسانية، يقول الراغب الأصفهاني –رحمه الله-: والعهد والوفاء به من الإيمان. وقد صيره الله قواما للناس. فإن الناس مضطرون إلى التعاون، ولا يتم التعاون إلا برعاية العهد والوفاء به. ولولا ذلك، لتنافرت القلوب، واضطربت الحياة, ولذلك اهتم القرآن الكريم، وعني عناية خاصة بالوفاء، فتحدث في كثير من آياته، التي تنبئ عن مكانته وشأنه، وشرفه وشرف الأوفياء وفضلهم. فمرة يذكر الوفاء على أنه البر، الذي هو جماع الخير ومقتضى الإيمان فيقول: ﴿لَيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ...﴾ ويذكره مرة أخرى على أنه من صفات المؤمنين المفلحين فيقول: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لآمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾ ويصفهم بالعقل والحكمة والفطنة يقول تعالى ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يَنقُضُونَ المِيثَاقَ﴾ وإذا كان القرآن الكريم قد مدح الوفاء والأوفياء، وأعلى مكانتهم، وشرّف منزلتهم، فقد ندد بالخائنين للعهود، الناقضين لها، وتوعدهم شرا، ووصفهم بالحمق قال تعالى: ﴿وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً﴾ كما وصفهم بالنفاق والكذب قال تعالى: ﴿وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُم مُّعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ كما حكم عليهم بأنهم من شر خلقه فقال: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ

عباد الله: لقد ضرب لنا النبي وصحابته، الذين تربوا في مدرسته، أروع الأمثلة في احترام العهد والوفاء به. فلقد عاهد المشركين في صلح الحديبية عهدا، كان من بين شروطه ما شق على بعض المسلمين قبوله وتطبيقه، ولكن النبي وقد قبل هذا العهد أبى إلا الوفاء بما التزم به، حتى يضرب المثل للدنيا في الوفاء، والتضحية في سبيله، بكل عزيز وغال. ولقد تربى أصحابه على هذا الخلق العظيم، فكان كل منهم في ذلك أسمى قدوة.

فعن جابر بن عبد الله قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لو قد جاء مال البحرين، لأعطيتك هكذا وهكذا» فلم يجئ مال من البحرين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاء مال البحرين أمر أبو بكر مناديا فنادى: من كان له عند رسول الله عدة أو دين فليأتنا، فأتيته وقلت له: إن النبي قال لي كذا وكذا, فحثى لي حثية، فعددتها فإذا هي خمسمائة، فقال لي خذ مثليها.

عباد الله: بهذا الوفاء الجميل، تحقق للمسلمين الاستقرار والأمن، وعاشوا في عز وتقدم وسعادة، وكانوا قدوة حسنة، ومثلا طيبا كريما، للإنسانية جمعاء. وإن ديننا الحنيف ليحتم على كل فرد من أبنائه، أن يكون وفيا بعهده، صادقا في وعده، أمينا في عمله، مراقبا ربه في كل أحواله وشئونه, وإن ما نراه اليوم من اضطراب في العالم، أدى إلى العدوان على كثير من الحقوق، وإهدار كرامة الإنسان، مرجع ذلك ومرده إلى نقض العهود، وخيانة الأمانة التي حملها الإنسان.

عباد الله: إذا أردنا أمنا ونصرا وسلاما، فلنكن أوفياء لربنا ولديننا، ولكل عهد قطعناه على أنفسنا، لتتحقق لنا السعادة في الدنيا والآخرة. عند (حم) من حديث عبادة بن الصامت أن النبي قال: «اضمنوا لي ستا أضمن لكم الجنة، اصدقوا إذا حدثتم, وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا ائتمنتنم, واحفظوا فروجكم, وغضوا أبصاركم, وكفوا أيديكم» .

اللهم إنا نعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء ونسألك الفوز في القضاء وعيش السعداء.

اللهم أيقظ قلوبنا من الغفلة, وارزقنا الوفاء بالعهود والوعود, وثبت قلوبنا على الإيمان, وتوفنا جميعا على الإسلام, ووفقنا لصالح الأعمال, ونجنا من جميع الأهوال, وبارك لنا في الأعمار والأولاد, ولا تقطع منا في الحياة صالح الأعمال, وارحم بفضلك موتانا, واستر عيوبنا واشف مرضانا, واغفر لنا ذنوبنا وارحم كافة المسلمين والمسلمات برحمتك يا أرحم الراحمين. آمين.