حب المال

بسم الله الرحمن الرحيم

حب المال

عباد الله: اتقوا الله تعالى واعرفوا ما لأجله خلقتم، وماذا تصيرون إليه إذا متم، تأملوا في هذه الدنيا وأحوالها وتقلباتها،تجدوها غرورا وباطلا، ولهوا ولعبا، ولحظات تمر سريعا، وتمضي جميعا، قيسوا ما يستقبل منها بما مضى، واعتبروا يا أولي الأبصار. أليس فينا معشر الحاضرين، من عُمر طويلا، ومن كان صغيرا، وكلنا بالنسبة إلى ما مضى سويا، فكأنه أحلام نائم، أو خيال هائم، هذه حقيقة الدنيا! فكيف يليق بالعاقل أن تكون أكبر همه، كيف يليق به أن يقدمها على الآخرة، كيف يليق به أن يشغل قلبه وفكره وجسمه في الحصول عليها، وهو عن الآخرة في إعراض.

عباد الله: إننا في زمان طغى فيه طلب المال وحب الدنيا، فصرف ذلك كثيرا من الناس عن الآخرة، حتى أضاعوا الواجبات، وارتكبوا المحرمات، وجهلوا أمر دينهم، صارت الدنيا أكبر همهم، ومبلغ علمهم، لها يسعون، ومن أجلها يتعادون ويتقاطعون ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾.

عباد الله: حب الحياة وكراهية الموت أمر جبل عليه بنو آدم، خرج (خ) عن أبي هريرة قال: سمعت النبي يقول: «لا يزال قلب الكبير شابا في اثنتين: حب الدنيا وطول الأمل». ومن أجل هذا نرى أنفسنا نحرص على الحياة وعلى أسباب البقاء فيها، والله تعالى جعل هذا المال محنة لأقوام، ومنحة لآخرين، فقد أعطى عباده الخير الكثير، والمال الوفير، ليمتحن بذلك إيمان المدعين، فيظهر جود الكرام المحسنين، ويبين بخل الأشحاء الهلعين، فمنهم من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بالمسلمين الدوائر ﴿عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ ومنهم ﴿مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ﴾. المال فتنة لهذه الأمة، وكم هلكت به قبلها من أمة، يقول : «لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال». وقال: «أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم» .

عباد الله: اعلموا أن ما بأيديكم من أموال، إنما هي عارية لله عندكم كانت بأيدي من سبقكم، وستنتقل إلى من بعدكم، دل على ذلك قوله تعالى ﴿وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾ فقال: من مال الله، ولم يقل: وآتوهم من مالكم، وصح عن نبيكم أنه قال كما عند (م) من حديث عبد الله بن الشخير قال: انتهيت إلى رسول الله وهو يقول: «ألهاكم التكاثر، يقول ابن آدم: مالي مالي! وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس». وفي (خ) عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا يا رسول الله: ما منا أحد إلا ماله أحب إليه، قال: فإن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخر». وعند الترمذي عن عائشة أنهم ذبحوا شاة فتصدقوا بها إلا كتفها، فقال النبي: «ما بقي منها؟ قالت: ما بقي منها إلا كتفها، قال: بقي كلها غير كتفها».

عباد الله: إنكم لن تبقوا للمال ولن يبقى لكم، وأنتم سائرون في طريقكم إلى الآخرة، فقد خرجتم إلى الدنيا بلا مال، وستخرجون منها بلا مال، وتبقى لكم أعمالكم، فلا تشتغلوا بما يفنى عما يبقى، ولا تغرنكم الحياة الدنيا.

فاتقوا الله عباد الله، وانتفعوا من هذا المال ما دام في أيديكم، بالتقرب به إلى الله، والمسارعة إلى ما فيه رضاه ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ ابتغوا بهذا المال الضعفاء والمساكين، فإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم، أنفقوا عليهم من طيبات ما كسبتم ومما أخرج الله لكم من الأرض ﴿وَلاَ تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ فإن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، وما تصدق أحد بعدل تمرة من كسب طيب إلا أخذها الرحمن بيمينه، فتربوا في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل.

عباد الله: تحروا بصدقاتكم ونفقاتكم الفقراء وهم كل من لا مال له ولا حرفة ولا وظيفة، والمساكين وهم من لهم شيء من ذلك، لكن لا يقوم بحاجاتهم ومؤنتهم، وآثروا بها من كان منهم ذوي القربى، فهم من أولى الناس ببركم وإحسانكم، وإن خير الجيران خيرهم لجاره، وأولاهم بذلك أقربهم منكم بابا.

الخطبة الثانية:

الحمد لله:

عباد الله: إن طلب الرزق والسعي في تحصيل المال، أمر محمود ومأمور به شرعا، إذا روعيت فيه الضوابط الشرعية، وأقيم على الموازين المرعية، بأن يكون من الوجوه المباحة، والمكاسب الطيبة، ولهذا أمر الله تعالى عباده بالسفر في أقطار الأرض،والمشي في مناكبها في أنواع المكاسب والتجارات، والأكل من رزقه الطيب الحلال فقال سبحانه: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾. وأمر سبحانه عباده بالانتشار في الأرض والابتغاء من فضله ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.

 وقد وسع الله لعباده أبواب الرزق المباح، ونهاهم عن الأبواب المحرمة، وقد قل من الناس الحذر من أسباب كسبه المحرمة، والمتورع عن صور جلبه المشتبهة، بل أكثر الناس أصبح المال أكبر همه، ملأ قلبه وشغل فكره، وسمع أذنه وبصر عينه، يخاطر في تحصيله أيما مخاطرة، ويسعى في تنميته مكاثرة ومفاخرة، ولا يبالي بعواقب ذلك في الدنيا والآخرة، يكسبه من وجوه محرمة، وحيل ملتوية آثمة، وطرائق خبيثة باطلة، فهو النهم الذي لا يشبع، والمفتون الذي لا يقلع، وصدق النبي إذ يقول : «ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما اكتسب المال من حرام أم من حلال». ولهذا تجد هذا الصنف يأخذ المال بالربا ويستحلون الرشا ويأخذونه ثمنا لبضائع محرمة، وبخس المقياس والكيل، والعد والوزن، ناهيك بما فيه إعانة على المنكر، وفتح أبواب الفساد والشر، وفي (خ) قال : «إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة» فالحلال عند هذا الصنف ما حل في يده بأي سبب، والحرام ما عجز عن تحصيله مع الجد في الطلب.

ولنفق يا عباد الله وقفة مع حال سلفنا الصالح مع هذا المال:

فهذا سعد بن أبي وقاص لما اشتد به الوجع أراد أن يتصدق بثلثي ماله، فقال النبي لا فقال بالشطر فقال لا ثم قال «الثلث والثلث كبير -أو قال- كثير ، إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس». (خ)

وهذا كعب بن مالك قال يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله قال أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك. (خ)

وهذا أبو جمرة نصر بن عمران الضبعي قال تمتعت- أي في الحج - فنهاني ناس فسألت ابن عباس فأمرني فرأيت في المنام كأن رجلا يقول لي حج مبرور وعمرة متقبلة فأخبرت ابن عباس فقال سنة النبي، ثم قال لي أقم عندي فأجعل لك سهما من مالي قال شعبة فقلت لم فقال للرؤيا التي رأيت. (خ)

وهذا سعد بن الربيع لما آخى النبي بينه وبين عبد الرحمن بن عوف قال سعد: إني أكثر الأنصار مالا فأقسم لك نصف مالي. (خ)

وهذا أبو طلحة قال يا رسول الله إن الله يقول ﴿لَن تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ وإن أحب مالي إلي بير حاء وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. (خ)

عباد الله: هكذا كان المال في نظر سلفكم، وهذه حال الدنيا عندهم، وتأملوا في أحوالكم وأفعالكم، وسلوا الله تعالى أن تكونوا مثلهم، وعودوا على إخوانكم المعدمين، وترفقوا لحالهم، ارحموا أناسا أصابهم الجهد والفقر والضراء، يرحمكم الرحمن في حالة السراء والضراء، ليتصدق أحدكم من درهمه من ديناره، من صاع بره من صاع شعيره، كيف يشبع أحدنا وأخوه المسلم جائع؟ كيف يتقلب أحدنا في نعيم الدنيا وأخوه معدم فاقد؟ أين أهل الرحمة والشفقة؟ أين من يقتحم العقبة؟ ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا العَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ﴾ .

فاتقوا الله عباد الله، وأجملوا في الطلب، اكسبوا المال من وجوه حله، وأنفقوه في محله، واعلموا أن رزق الله لا يجلبه حرص حريص، ولا يدفعه كراهية كاره، ولن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، وإن الرزق ليطلب الرجل كما يطلبه أجله.