القدوة والاقتداء

بسم الله الرحمن الرحيم

القدوة والاقتداء

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً به وتوحيدا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما مزيدا ... أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله وآمنوا برسله، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله.

عباد الله: ذكر الله تعالى خاصة خلقه، وخلص أوليائه، الذين أعد لهم الجنة بما فيها من النعيم المقيم، وألوان التكريم، فأثنى عليهم بأكمل الصفات، وأجل الأعمال وأجمل الأخلاق، صدقا في الإيمان، وسدادا في الأقوال، وكمالا في الأخلاق، ثم جمع سبحانه تلك الصفات في صفوته من خلقه محمد ، خاتم النبيين، وإمام المرسلين، فمدحه وأثنى عليه، مؤكدا ذلك بالقسم العظيم ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ ثم وجه سبحانه أهل الإيمان إلى الاقتداء بنبيه، وحسن الاتباع له ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾ وكان خلقه القرآن، يفعل ما أمره الله به، ويترك ما نهاه الله عنه، ويتخلق بالخلق الذي يحبه الله ويحب أهله، ويبتعد عن الخلق الذي يسخط الله ويأباه.

عباد الله: يقول الله تعالى ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ قال العلامة ابن كثير – رحمه الله -: هذه الآية أصل كبير في التأسي برسول الله في أقواله وأفعاله وأحواله، فإنه رأس الأخيار، وأكمل الخلق، وإمام أهل التقوى عامة في الدنيا والآخرة، وصاحب المقام المحمود، والحوض المورود، وأعظم الشفعاء شفاعة في أهل التوحيد، وأول من يجوز الصراط، وأول من يستفتح باب الجنة ويدخلها، فمن أحب مرافقته في الجنة، فليتخلق بأخلاقه، وليحذر مخالفته، وليلزم طاعته ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً (69) ذَلِكَ الفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً﴾ ولهذا كان أصحاب النبي أعظم الناس فوزا بعد النبيين، بالثناء العظيم، والوعد من الله بغاية التكريم، والرضوان والنعيم المقيم ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ وذلك لحسن اقتدائهم به، وكمال اتباعهم له، وصدق إيمانهم به، وهكذا من اتبعهم بإحسان من قرون الأمة، يلحق بهم، ويفوز برفقتهم ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ﴾ فلما كمّلوا اقتداءهم برسول الله في الأقوال والأعمال والأحوال، عظمت درجتهم، وكمل فوزهم ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾.

عباد الله: وكما شرع الله تعالى الاقتداء برسوله محمد وأتباعه في جميع الأعمال والأقوال والأخلاق، فقد شرع الاقتداء بهم في البراءة من المشركين، ومخالفتهم لهم فيما كانوا عليه من الضلال المبين ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ...﴾ فشرع تعالى الاقتداء بالخليلين وأتباعهما في عبادة الله، وترك عبادة ما سواه، وفي البراءة من الشرك والمشركين ومعاداتهم في الله، وهذه هي الحنيفية السمحة، ملة إبراهيم التي أمر الله عبده ورسوله محمدا باتباعها، ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ وسفه من يرغب عنها ﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾.

عباد الله: ومن القدوة الصالحة المحمودة، اقتداء الذرية بالآباء الصالحين فيما هم عليه من الصلاح والاستقامة، فإن ذلك من أسباب رفعة الدرجة، وجمع الشمل في الجنة ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ﴾ فأخبر سبحانه عن فضله وكرمه، ولطفه بخلقه، وإحسانه إليهم، أن المؤمنين إذا اتبعتهم ذريتهم بالإيمان ، يلحقهم الله تعالى بآبائهم في المنزلة، وإن لم يبلغوا عملهم، لتقر أعين الآباء بالأبناء عندهم في منازلهم، فيجمع سبحانه بينهم على أحسن الوجوه، بأن يرفع من هو أقل عملاً وأدنى درجة إلى قريبه الذي هو أعظم عملا وأعلا منزلة كما قال تعالى ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾.

الخطبة الثانية:

الحمد لله:

عباد الله: الاقتداء الحسن والاتباع الصالح المحمود في الدنيا والآخرة، إنما يكون من اللاحق بالسابق في الإيمان بالله والعمل الصالح الذي يحبه ويرضاه، والخلق الجميل الذي مدحه الله كما قال سبحانه عن يوسف عليه السلام أنه قال ﴿قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ﴾ فهكذا يكون الأبناء الصالحون خلفا لمن سلف، ويكون الآباء المؤمنون قدوة للأبناء في الخير وتكون الذرية تبعا لهم في ذلك في سلسلة متصلة، وقفل متلاحق في السير إلى الجنة على هدى ونور، ولكن المصيبة، وشر البلية إذا فسد الآباء والعياذ بالله فصاروا قدوة سيئة لأولادهم في الضلال، وسيء الأعمال، كما قال تعالى ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾ فإذا كان الأب لا يصلي بالكلية، أو لا يشهد الصلاة مع الجماعة، أو يتعاطى المسكرات، أو لايتورع عن كسب المال الحرام، أو لا يغار على محارمه، فكيف تكون الذرية التي تشاهد هذه الجرائم، وتتربى على إلف تلك العظائم، التي يرتكبها الآباء، مجاهرة لرب الأرض والسماء، إنهم سيكونون في الغالب كما قال الشاعر:

وينشأ ناشيء الفتيان منا *** على ما كان عوده أبوه

كيف نتصور حال شباب ألفوا من آبائهم هجر المساجد، يولد أحدهم ويبلغ وهو لم ير والده يخرج إلى المساجد للصلوات الخمس، فكانوا كما قال الله ﴿إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ﴾ فعسى أن لا يكون ﴿عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ﴾.

ألا فليحاسب كل امرئ منا نفسه, ولينظر في مبلغ صدقه لما عاهد عليه ربه، فكلنا قد عاهدنا ربنا قبل كل شيء على الإيمان به، حين قال لنا: ألست بربكم؟ قلنا: بلى. وكلنا قد عاهدنا ربنا على السمع والطاعة لأمره ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾، وقد أخذ الله العهد على كل قائل, أن يقول الحق لا يخشى في الله لومة لائم، وعلى كل كاتب، أن يكتب كما علمه الله, فلا يبخس من الحق شيئا, وعلى كل كاسب، أن ينزه كسبه عن الحرام والسحت, وعلى كل شاهد أو قاض أو حاكم, أن يقوم بالقسط فلا تحمله محبة أحد على محاباته وممالاته, ولا كراهية أحد على الإجحاف به أو مناوأته، وعلى كل من كلت إليه أمانة في فعل أو صنعة, أو منصب أو حرفة, أن يتقي الله فيها حق تقاته ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ فهل وفينا بهذه العهود كلها؟ ربنا أوزعنا أن نصدق عهدك، وأن نوفي بوعدك.

فاتقول الله أيها الآباء، وكونوا قدوة صالحة لأبنائكم في الخير، فإنكم محل القدوة، وحاسبوا أنفسكم، وتفكروا في حالكم، فقد أبلغ في الإعذار، من تقدم بالإنذار ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ﴾.