الرؤى والأحلام

بسم الله الرحمن الرحيم

الرؤى والأحلام

عباد الله: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، رأيت كأني دخلت الجنة، فسمعت فيها وجبة - أي صوتا – ارتجت لها الجنة، فنظرت فإذا قد جيء بفلان وفلان، حتى عدت اثني عشر رجلا، وكان قد بعث النبي سرية – قالت: فجيء بهم عليهم ثياب طلس، تشخب أوداجهم دما، فقيل: اذهبوا بهم إلى أرض البيدح أو قال: نهر البيدح، فغمسوا فيه، فخرجوا منه وجوههم كالقمر ليلة البدر، ثم أُتُوا بكراسي من ذهب، فقعدوا عليها، وأتي بصحفة فيها بسر، فأكلوا منها من فاكهة ما أرادوا، وأكلت معهم، فجاء البشير من تلك السرية التي بعثها النبي فقال: يا رسول الله، كان من أمرنا كذا وكذا، وأصيب فلان وفلان، حتى عد الاثني عشر الذين عدتهم المرأة، فقال رسول : «عليَّ بالمرأة»، فجاءت فقال: «قصي على هذا رؤياك»، فقصَّت، فقال: «هو كما قالت».

عباد الله: إن هذه الروح لها صفات وحوادث تقع لها، مهما حاول العقل البشري الخوض في معرفة كيفية حصوله، فلن يصل إلى نتيجة، ومنها هذه الرؤى والأحلام التي يراها الناس في منامهم، وبعضها يصدق أثره في الواقع، وهي الرؤيا التي من الله، فقد أخبر النبي كما في (خ م) أنه إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، وأصدقكم حديثا، أصدقكم رؤيا.

 وفي الحديث الصحيح (حم) عن أنس قال: كان النبي تعجبه الرؤيا الحسنة، وربما قال: هل رأى أحد منكم رؤيا، وقال: فإذا رأى الرجل رؤيا سأل عنه، فإن كان ليس به بأس، كان أعجبَ لرؤياه، ولقد كان النبي يخبر أصحابه بما رأى من الرؤى التي هي وحي صادق في حقه صلى الله عليه وسلم ، وحق جميع الأنبياء.

 ومن ذلك ما جاء في (خ م) أنه قال : «بينا أنا نائم، إذ أوتيت خزائن الأرض، فوضع في يديَّ سواران من ذهب، فكبرا عليَّ وأهماني، فأُوحي إليَّ: أن انفخهما، فنفختهما، فطارا، فأولتهما الكذابَين اللذَين أنا بينهما، صاحبَ صنعاء، وصاحب اليمامة» وفي رواية (ت) «فأولتهما: كذابين يخرجان من بعدي، يقال لأحدهما: مسيلمة صاحبُ اليمامة، والعنسي صاحب صنعاء».

وكان في المدينة وباء، فرأى النبي كما في (خ) امرأة سوداء ثائرة الرأس، خرجت من المدينة، حتى نزلت بمهيعة، وهي الجحفة التي يحرم منها الحاج من المدينة، قال صلى الله عليه وسلم: «فأولت أن وباء المدينة نقل إليها».

عباد الله: يقول العلامة ابن القيم : "وقد ضرب الله سبحانه الأمثال، وصرفها قدرا وشرعا، ويقظة ومناما، ودل عباده على الاعتبار بذلك، وعبورهم من الشيء إلى نظيره، واستدلالهم بالنظير على النظير، بل هذا أصل عبارة الرؤيا التي هي جزء من أجزاء النبوة، ونوع من أنواع الوحي ".

فتارة تبشر بخير قدمه العبد أو يقدمه، وتارة تنذره من معصية ارتكبها أو هم بها، وتحذره من مكروه انعقدت أسبابه؛ ليعارض تلك الأسباب بأخرى تدفعها، وغير ذلك من الحكم والمصالح التي جعلها الله في الرؤيا نعمة منه ورحمة وإحسانا، وتذكيرا وتعريفا، وكم ممن كانت توبته وصلاحه، وزهده وإقباله على الآخرة بسبب رؤيا رآها .

كما حصل لمالك بن دينار أحد ثقات التابعين– رحمه الله – حين قال: كنت في أول أمري مكبا على اللهو وشرب الخمر، فاشتريت جارية وتسريت بها، وولدت لي بنتا، فأحببتها حبا شديداً، إلى أن دبت ومشت، فكنت إذا جلست لشرب الخمر جاءت وجذبتني عليه، فأهرقته بين يدي، فلما بلغت من العمر سنتين ماتت، فأكمدني حزنها، فلما كان ليلة بتُّ وأنا ثمل من الخمر، فرأيت في النوم كأن القيامة قد قامت، وخرجت من قبري، وإذا بتنين قد تبعني يريد أكلي، قال: فهربت منه فتبعني، وصار كلما أسرعت يهرع خلفي، وأنا خائف منه، فمررت في طريقي على شيخ نقي الثياب ضعيف، فقلت: يا شيخ، بالله أجرني من هذا التنين الذي يريد أكلي وإهلاكي، فقال: يا ولدي أنا شيخ كبير، وهذا أقوى مني ولا طاقة لي به، ولكن مر وأسرع، فلعل الله ينجيك منه، قال: فأسرعت في الهرب وهو ورائي، فأشرفت على طبقات النار وهي تفور، فكدت أن أهوي فيها، وإذا قائل يقول: لست من أهلي، فرجعت هارباً والتنين في أثري، فأشرفت على جبل مستنير وفيه طاقات، وعليها أبواب وستور، وإذا بقائل يقول: أدركوا هذا البائس قبل أن يدركه عدوه، ففتحت الأبواب، ورفعت الستور، وأشرفت منها على أطفال بوجوه كالأقمار، وإذا ابنتي معهم، فلما رأتني نزلت إلى كفة من نور، وضربت بيدها اليمنى إلى التنين فولى هارباً، وجلست في حجري وقالت: يا أبت ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ﴾ فقلت: يا بنيه، وأنتم تعرفون القرآن؟ قالت: نحن أعرف به منكم، قلت: يا بنيه، ما تصنعون هاهنا؟ قالت: نحن من مات من أطفال المسلمين، أُسكنا هنا إلى يوم القيامة، ننتظركم تقدمون علينا، فقلت: يا بنيه، ما هذا التنين الذي يطاردني ويريد إهلاكي؟ قالت: يا أبت هذا عملك السيئ، قويته فأراد إهلاكك، فقلت: ومن ذلك الشيخ الضعيف الذي رأيته؟ قالت: ذلك عملك الصالح، أضعفته حتى لم يكن له طاقة بعملك السيئ، فتب إلى الله، ولا تكن من الهالكين، قال: ثم ارتفعت عني، واستيقظت، فتبت إلى الله تعالى من ساعتي.

الخطبة الثانية:

الحمد لله:

عباد الله: الرؤى ثلاثة أنواع: رؤيا صالحة هي بشرى من الله، ورؤيا هي تحزين من الشيطان، ورؤيا هي من حديث النفس، وكثير من مرائي الناس إنما هو من حديث النفس.

والناس في الرؤى طرفان ووسط، فطرف أنكرها وعدها أضغاث أحلام، وطرف غلا فيها وجعل جل حديثه عنها، وأشغل ذهنه بها، وبعضهم جعلها دليلا شرعيا يستند إليه، وأما الوسط، فهم الذين اتبعوا النهج السليم، الذي رسمه لهم النبي الكريم، كما في ( خ ) أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لم يبق بعدي من النبوة إلا المبشرات، قالوا: وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة». وكما في الموطأ بسند صحيح عن عروة بن الزبير في قوله تعالى ﴿لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ قال: هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل المسلم أو ترى له" .

فالرؤيا مبشرات فقط، ولا يستند عليها في الأحكام الشرعية وتقريرها، وإلا لانفتح على المسلمين باب شر لا يعلم مداه إلا الله، ومن استشهد بقوله : «أرى رؤياكم قد تواطأت» فقد أخطأ؛ لأن الذي قرر ذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم بوحي من ربه، والوحي قد انقطع.

عباد الله: إذا رأى الإنسان ما يكره في الرؤيا، فالسنة أن يفعل خمسة أشياء: أن يستعيذ بالله من الشيطان، وأن ينفث عن يساره، وأن لا يخبر بها أحداً، وأن يتحول عن جنبه الذي كان عليه، وأن يقوم فيصلي . ومتى فعل ذلك لم تضره الرؤيا المكروهة – بإذن الله -. فإن هذا يدفع شرها.

وإن رأى رؤيا حسنة فليستبشر ولا يخبر بها إلا من يحب، ولا يقصها إلا على عالم أو ناصح؛ لأن من يقصها عليه قد يؤولها تأويلاً فيه ضرر، فتقع كما أخبر؛ لأن الرؤيا تقع غالبا على ما فسرت به، كما عند (د) بإسناد صحيح : «الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر، فإذا عبرت وقعت، ولا يقصها إلا على وادٍّ أو ذي رأي» . وعند (م) أن أعرابياً قال: يا رسول الله: رأيت في المنام كأن رأسي ضرب فتدحرج، فاشتددت في أثره، فقال رسول الله : «لا تحدث الناس بتلاعب الشيطان بك في منامك» .

أما إذا رأى الإنسان رؤيا ولا يعلم هل هي صالحة أم لا؟ فالأولى أن لا يتكلف في طلب تأويلها.

وقد ورد الوعيد الشديد في حق من كذب في رؤياه، في (خ) أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من تحلم بحلم لم يره، كلف أن يعقد بين شعيرتين، ولن يفعل».

عباد الله: عليكم أن تتقوا الله تعالى في اليقظة، ولا يضركم ما رأيتم في المنام، وأن تتقوا الله عند رؤيتكم شيئا في المنام، فلا تكذبوا فيها، واجعلوها من الأمور التي تزيدكم إيمانا، واتبعوا السنة في ذلك، ولا تجعلوها مستندا شرعيا، وإنما تستبشرون به فحسب، ولا تتكلفوا في طلب تأويل الرؤيا.