الصدق وآثاره

بسم الله الرحمن الرحيم

الصدق وآثاره

ألا وإن الصدق خلق كريم، ووصف حسن عظيم، لا يتصف به إلا ذو القلب السليم، أمر الله به في كتابه فقال ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ .

الصدق يكشف عن معدن الإنسان وحسن سريرته، وطيب سيرته، كما أن الكذب يكشف عن خبث الطوية، وقبح السيرة. الصدق منجاة، والكذب مرداة. الصدق محبوب ممدوح في العقول السليمة، والفطر المستقيمة، حث على الصدق رسول الهدى صلى الله عليه وسلم كما عند(خ،م) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً» .

أيها المسلمون : إن الصدق خلق يحبه الله ورسوله، ويعرف فضله العقلاء الحكماء، دعا إليه نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم ، مع دعوته لعبادة الله وحده أول بعثته، ففي (خ،م) عن أبي سفيان رضي الله عنه أن هرقل سأله عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: فماذا يأمركم؟ قلت: يقول: «اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم»، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة

وتكون عواقب الصادق في حياته إلى خير، كما في حديث كعب بن مالك رضي الله عنه في قصة تخلفه عن غزوة تبوك، في (خ،م) "قلت: يا رسول الله، إني ـ والله ـ لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، لقد أعطيت جدلاً، ولكني ـ والله ـ لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني، ليوشكن الله يسخطك علي، وإن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه، إني لأرجو فيه عقبى الله عز وجل إلى أن قال : قلت: يا رسول الله، إن الله تعالى إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدّث إلا صدقاً ما بقيت، فو الله ما علمت أحداً من المسلمين أبلاه الله تعالى في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني الله تعالى، والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله تعالى فيما بقي"

ويَذكر الله عز وجل نبيه ورسوله إبراهيم عليه الصلاة والسلام بأفضل خصاله فيقول ﴿وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِياًّ﴾ .

ووصف الله المهاجرين الأولين بخلق الصدق فقال ﴿لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ .

وقد وعد الله على الصدق ثوابه العظيم، وجزاءه الكبير في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا يرزق صاحب الصدق حسن السمعة، ومحبة الله، ومحبة الخلق، وتثمّن أقواله، ويوثق به، ويؤمن جانبه .

وأما ثواب الصدق في الآخرة فرضوان الله تعالى، والدرجات العلى في الجنة ﴿قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ﴾ ، وقال تعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً﴾ ، قال صلى الله عليه وسلم : «أنا زعيم بيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً» .

الصدق: قول وعمل : فصدق القول أن يقول الحق بتبليغ كلام الله تعالى، أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم ، أو يأمر بحق، أو ينهى عن باطل، أو يخبر بما يطابق الواقع، قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ﴾ .

والصدق في العمل هو معاملة الله تعالى بصدق نية، وإخلاص ومحبة ويقين، واتباع لشرع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاملة الخلق بصدق ورحمة ووفاء، قال الله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ﴾ .

فكونوا ـ عباد الله ـ من الصادقين في أقوالكم وأعمالكم؛ فإن الصدق باب من أبواب الجنة لا يقرّب أجلا، ولا يمنع رزقاً، ولايفوّت مصلحة.

الخطبة الثانية

أيها المسلمون : إن من الصدق الابتعاد عن الغدر والخيانة، والمكر والخديعة

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : "عليك بالصدق وإن قتلك" وقال أيضاً: "لأن يضعني الصدق ـ وقلّ ما يفعل ـ أحب إلى أن من أن يرفعني الكذب وقلّ ما يفعل" وقال رضي الله عنه : "قد يبلغ الصادق بصدقه. ما لا يبلغه الكاذب باحتياله" .

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "أربع من كن فيه فقد ربح: الصدق والحياء وحسن الخلق والشكر".

وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "ما كذبت مذ علمت أن الكذب يشين صاحبه" .

وقال الأوزاعي رحمه الله: "والله لو نادى منادٍ من السماء أن الكذب حلال ما كذبت" .

وقال يوسف بن أسباط رحمه الله: "لأن أبيت ليلة أعامل الله بالصدق أحب إلى من أن أضرب بسيفي في سبيل الله" .

وقال الشعبي رحمه الله: "عليك بالصدق حيث ترى أنه يضرك ، فإنه ينفعك، واجتنب الكذب حيث ترى أنه ينفعك ، فإنه يضرك" .

وقال عبد الملك بن مروان لمعلم أولاده: "علمهم الصدق كما تعلمهم القران".

عود لسانك قول الصدق تحظ به *** إن اللسان لما عودت معتاد

واعلم أن أعلى مراتب الصدق هي مرتبة "الصّدّيقية" يقول ابن القيم: إن أعلى مراتب الصدق هي الصديقية، وهي كمال الانقياد للرسول مع كمال الإخلاص للمرسِل . أهـ

وهذا يستلزم الوفاء بالعقود والعهود ، سواء كان عهدا مع الله عز وجل أو مع رسوله صلى الله عليه وسلم أو مع أي أحد ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ . والوفاء بعهد الله عز وجل يقتضي توحيده وإفراده بالعبادة، كما يقتضي التحاكم إلى شرعه والكفر بالطاغوت، وهذا هو مقتضى الصدق في شهادة أن لا إله إلا الله. كما أن الوفاء بعهده صلى الله عليه وسلم يقتضي إحياء سنته والذب عنها، وتقديم قوله على قول كل أحد، وهذا مقتضى شهادة أن محمدا رسول الله . وهذا يستلزم أن يجاهد الإنسان نفسه لتكون سريرته وعلانيته واحدة ، قال يزيد بن الحارث: إذا استوت سريرة العبد وعلانيته فذلك النَصَف، وإن كانت سريرته أفضل من علانيته فذلك الفضل، وإن كانت علانيته أفضل من سريرته فذلك الجور.

وفي الصدق يقول ابن القيم رحمه الله: وهو منزل القوم الأعظم ، والطريق الأقوم ، الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين، وبه تميز أهل النفاق من أهل الإيمان ، وسكان الجنان من أهل النيران، وهو سيف الله في أرضه ، الذي ما وضع على شيء إلا قطعه، ولا واجه باطلا إلا أرداه وصرعه، من صال به لم ترد صولته ، ومن نطق به علت على الخصوم كلمته، فهو روح الأعمال ، ومحك الأحوال ، والحامل على اقتحام الأهوال، وهو أساس بناء الدين ، وعمود فسطاط اليقين، ودرجته تالية لدرجة النبوة التي هي أرفع درجات العالمين .