المجاهرون بالمعاصي

بسم الله الرحمن الرحيم

المجاهرون بالمعاصي

فليس بخاف أن الأمة الإسلامية ، تعيش في إدبار من الزمان ، وإقبال من الفتن والمحن ، تقلبت أكثر الحقائق ، واختلت المفاهيم ، وطففت الموازين ، وتغيرت المسميات ، وغيبت المسلمات ، وامتدت من أهل الفجور الأعناق ، ونجم الزيغ والنفاق ، حتى عاد المعروف عند الكثيرين منكرا، والمنكر معروفا ، ضعفت هيبة شعائر الإسلام ، عند كثير من المسلمين ، واهتزت مكانة العلماء ، وتربت الناشئة على أفكار الضلالة ، كثر المتسمون بالعلم ، المجاهرون بالمعاصي ، تكلم الرويبضات ، ونطق الكذبة ، وائتمن الخونة ، حتى عاد الحليم حيرانا ، في وسط ركام الزيف ، وغشاوة المغالطات ، وسحب الفتن .

آفات متلازمة ، بعضها آخذ برقاب بعض ، وكلما أحدث الناس ظلما وفجورا ، أحدث الله لهم من الآفات ، ما هو موجب أعمالهم وظلمهم وفجورهم . روى الإمام البخاريّ رحمه الله تعالى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كلّ أمّتي معافًى إلاّ المجاهرين، وإنّ من المجاهرة أن يعملَ الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله فيقول: يا فلان، عملتُ البارحةَ كذا وكذا، وقد بات يستره ربّه، ويصبِح يكشِف سترَ الله عليه» .

قال الكرماني : "يعني كل واحد من الأمة يعفى عن ذنبه ولا يؤاخذ به إلا المعلن " .

وقال الطِّيبي : "كل أمتي يتركون في الغَيبة ، إلا المجاهرون" .

وقال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله : "معافى : يعني قد عافاهم الله إلا المجاهرين ؛ والمجاهرون على قسمين : قسم يعمل المعصية وهو مجاهر بها ، فيعملها أمام الناس وهم ينظرون إليه ، هذا ولا شك انه غير معافى ، وهو من المجاهرين لأنه جر على نفسه الويل، حيث عصى الله عز وجل ، وجره على غيره لأن الناس إذا رأوه قد عمل المعصية هانت في نفوسهم، و فعلوا مثله . فهذا نوع من المجاهرة ولم يذكره النبي صلى الله عليه وسلم لأنه واضح لكنه ذكر أمرا آخر قد يخفى على بعض الناس فقال «ومن المجاهرة أن يعمل الرجل» أي أن الإنسان يعمل العمل السيئ في الليل ، فيستره الله عليه ، ولو تاب لكان خيرا له ، ولكنه يخبر الناس ، فيقول عملت البارحة كذا فهذا ليس بمعافى ، والحاصل أنه ينبغي للإنسان أن يستتر بستر الله عز وجل ، وأن يحمد الله على العافية ، وأن يتوب فيما بينه وبين ربه من المعاصي ، فإذا تاب تاب الله عليه ، وستره في الدنيا والآخرة" أ. هـ.

والمجاهر : صاحب معصية ، متهاون بها ،متوعد بالعقاب عليها ، وممن يسعى في الأرض فسادا ، وقد أمن مكر الله حين جاهر بمعصيته مع علمه بتحريمها ، وهو ممن خلع جلباب الحياء «إن ممـا أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما تشاء» (خ) ، والمجاهر يستدعي الهلاك ، وحلول غضب الله لقوله صلى الله عليه وسلم : «لاإله إلا الله ، ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا ، قالت زينب : يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال : نعم إذا كثر الخبث» فق ، في الجهر بالمعصية استخفافًا بمن عُصي ، وهو الله عزّ وجل، واستخفافًا برسوله و بصالحي المؤمنين والمجاهر بالمعصية ، يحمل أوزار من ضل بسببه ،قال عليه الصلاة والسلام «من دل على ضلالة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» مسلم.

عباد الله : ذكر العلماء مسائل متعددة في الفتاوى والأحكام بشأن المجاهر، فنصّوا على كراهية الصلاة خلفَ الفاسق عمومًا، وقال بعضهم بإعادة الصلاة خلف من جاهر بالمعصية، و قالوا: لا يعاد المجاهر بالمعصية إذا مرض لأجل أن يرتدع ويتوب ، ويرتدعَ غيره ممن يمكن أن يقع في المعصية، وإذا عاده من يدعوه إلى الله وينصحه ، فهو حسن لأجل دعوته. و ذكر أهل العلم رحمهم الله أن المجاهر بالمعصية ، إذا مات فإنه لا يصلّي عليه الإمام ولا أهل الفضل ، زجرًا له ولأمثاله، وردعًا لمن يقع في هذا.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ينبغي لأهل الخير أن يهجروا المُظهر للمنكر ميتًا إذا كان فيه كفّ لأمثاله، فيتركون تشييع جنازته"، فمن جاهر بشيء فمات مصرًا مات مجاهرًا يَتْركُ أهل الفضل والخير الصلاة عليه، ويصلي عليه عامّة الناس، ما دَام مسلمًا لم يخرج من الإسلام.

الخطبة الثانية :

عباد الله : يندب الستر على المسلم عمومًا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة» لكن المجاهر بالمعصية له شأن آخر، قال العلماء: "وأما المجاهر والمتهتّك فيستحبّ أن لا يستَر عليه، بل يُظهَر حاله للناس حتى يجتنبوه، فأجاز العلماء غيبةَ المجاهر بفسقه أو ببدعته، كالمجاهر بشرب الخمر وغيره .

وكما قال الإمام أحمد رحمه الله: "إذا كان الرجل معلِنًا بفسقه فليس له غيبة"، وقال رحمه الله: "ليس لمن يسكر ويقارف شيئًا من الفواحش حرمة ولا صِلة إذا كان معلِنًا مكاشفًا"،

عباد الله: انظروا فيمن حولكم من الناس، كيف صارت المجاهرة بالمعاصي شيئًا عاديًا، كيف يجاهر بعض الناس برفع أصوات الغناء ؟! وإسبال الثياب وحلق اللحى ، وهذه المرأة المتهتّكة التي تنزل إلى السوق متبرّجة متعطّرة كاشفة عن الأقدام ، تمشي أمام الناس مجاهرة بالفسق والمعصية، كيف صار حال بعض الناس في الإجهار بالفسق والمعاصي في الدعايات التي ينشرونها.

أيها المسلمون: ما ظهرت معصية على نعمة إلا سلبتها، ولا تمكنت من قلوبٍ إلا أفسدتها، تزيل النعم الحاصلة، وتمنع الآلاء المقبلة، فاحرص على محاسبة نفسك، واحذر مزالق الهوى ونزغات الشيطان، وسوء الخاتمة، فقد أحصيت عليك اللفظة والنظرة، وعاتب نفسك على التقصير، واحمد الله أن فسح لك في الأجل، وبادر بتوبة نصوح، فإن الله يفرح بتوبة التائب، وإياك والتسويف، فمن استعمل التسويف، لم ينبعث إلى العمل.

الذنوب جراحات ، ورب جرح وقع في مقتل ، فيا أسير دنياه ، يا عابد هواه ، يا موطن الخطايا ، ويا مستودع الرزايا ، تذكر ما قدمت يداك ، قبل أن تقف بين يدي مولاك ، فالدنيا سموم قاتلة ، والنفوس عن مكائدها غافلة ، فتذكر واعتبر في الآجلة ، قبل أن تخونك العاجلة

يأيها العاصي المجاهر : إلى متى هذه الغفلة ، وأنت مطالب بغير مهلة ، فبالله عليك تعاهد أيامك بتحصيل العدد ، وأصلح من أعمالك ما فسد ، فقد آذنت الدنيا بالذهاب ، وبين يديك عما قريب الحساب ، فلا يبيع الباقي بالدنيا إلا الخاسر ، ولا يستهوي المعاصي إلا ميت القلب حائر ، بيت الطاعة عال عامر ، وبيت المعصية خراب داثر ، رفيق التقوى صادق ، ورفيق السوء غادر .