الوقت وأهميته

بسم الله الرحمن الرحيم

الوقت وأهميته

أما بعد: فاتقوا الله الذي خلقكم وسواكم، ومن الخير زادكم، ومن الشر وقاكم .

إننا في نعم نتقلب فيها صباح مساء، غفل الكثيرون عنها، وقل المتنبهون و المستغلون لها بما ينفعهم في الدنيا والآخرة، ومن ذلك نعمة الوقت. يقول سبحانه مذكراً بهذه النعمة ﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ﴾ . قال ابن كثير رحمه الله: أوَ ما عشتم في الدنيا أعماراً؟ لو كنتم ممن ينتفع بالحق لانتفعتم به في مدة عمركم.

ولذا كان طول العمر حجة على ابن آدم ففي (خ) «أعذر الله عز وجل إلى امرئ أخر عمره حتى بلغه ستين سنة». أي أزال عذره ولم يبق له موضعاً للاعتذار.

قال ابن القيم: "فالوقت منصرم بنفسه منقض بذاته ـ أي لا يحتاج إلى من يديره ويحركه ـ ولذا فمن غفل عن نفسه تصرمت أوقاته ، وعظمت حسراته واشتد فواته، والواردات سريعة الزوال ـ تمر أسرع من السحاب وينقضي الوقت بما فيه فلا يعود عليك منه إلا أثره وحكمه، فاختر لنفسك ما يعود عليك من وقتك، فإنه عائد عليك لا محالة، لهذا يقال للسعداء في الجنة ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الخَالِيَةِ﴾ ويقال للأشقياء المعذبين في النار ﴿ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ﴾ .

وأقسم الله عز وجل بالزمن فقال: ﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ ، وأقسم بالضحى والليل ﴿وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى﴾ ، وأقسم الله تعالى بالفجر ﴿وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾ ، أقسم ربنا بهذه الأوقات حتى نعلم قيمتها وحتى نصونها ونحفظها ولا نعمل فيها إلا خيرًا, فهذا العمر الذي تعيشه أيها العبد هو المزرعة التي تجني ثمارها في الدار الآخرة, فإن زرعته بخير وعملٍ صالح جنيت السعادة والفلاح وكنت من الذين يُنادى عليهم في الدار الآخرة ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الخَالِيَةِ﴾ ، وإن ضيعّته بالغفلات وزرعته بالمعاصي والمخالفات, ندمت يوم لا تنفعك الندامة وتمنيت الرجوع إلى الدنيا يوم القيامة .

أيها المسلمون: صَحّ عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عُمُرِه فيما أفناه, وعن شبابه فيما أبلاه, وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه, وعن علمه ماذا عمل به» .

وروى البخاري عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ» فالموفق العاقل من عرف كيف يستفيد من فراغه وصحته ويضعهما في الموضع الذي يحقق له السعادة في الدارين فإن كان كذلك فهو المغبوط ، وإلا فإنه المغبون الخاسر ، فالصحة يتبعها السقم ، والفراغ يعقبه الشغل .

عباد الله :إن من أمضى يومه في غير حق قضاه ، أو فرض أداه ، أو مجد أثله ، أو حمد حصله ، أوخير أسسه ، أو علم اقتبسه ، فقد عق يومه وظلم نفسه ، من حافظ على وقته ترقى في درجات الكمال، ومن أضاع وقته تردى في دركات الوبال.

ولقد كان سلف أمتنا أحرص الناس على أوقاتهم، و كانوا بعيدين عن علامة المقت ، ألا وهي إضاعة الوقت . فلقد كان ابن مسعود يقول: ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي ، وقال الحسن البصري: لقد أدركت أقواماً كانوا على أوقاتهم أشد حرصاً منكم على أموالكم. ويقول: يا ابن آدم إنك أيام مجموعة، إذا ذهب يوم ذهب بعضك. وقال عمر بن عبد العزيز: يا ابن آدم إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما. ويقول آخر: من كان يومه كأمسه فهو مغبون.

فيا أيها المسلمون، اتقوا الله فإن تقواه عليها المعوَّل، وعليكم بما كان عليه سلف الأمة والصدر الأول، واشكروه على ما أولاكم من الإنعام وطوَّل، وقصروا الأمل، واستعدوا لبغتة الأجل، فما أطال عبدٌ الأمل إلا أساء العمل ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾ .

الخطبة الثانية

أيها المسلمون، إن الشهور والأعوام، والليالي والأيام ، مواقيت الأعمال ، ومقادير الآجال، تنقضي جميعاً ، وتمضي سريعاً، والليل والنهار يتعاقبان لا يفتران، ومطيَّتان تقربان كل بعيد، وتدنيان كل جديد، وتجيئان بكل موعود

عبدالله : عمرك قد تصرّمت أيامه، وقُوِّضت خيامه، وغابت شمسه، واضمحل هلاله، إيذانا بأن هذه الدنيا ليست بدار قرار، وأن ما بعدها دارٌ إلا الجنة أو النار، فاحذروا الدنيا ومكائدها، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك ، أخرجه البخاري

عباد الله: تصرمت أيامكم، فاحتطبوا زاداً كافياً، وأعدوا جواباً شافياً، واستكثروا في أعماركم من الحسنات، وتداركوا ما مضى من الهفوات، وبادروا فرصة الأوقات، قبل أن ينادي بكم منادي الشتات، ويفجؤكم هادم اللذات .

فيا من أقعده الحرمان، يا من أركسه العصيان، كم ضيّعت من أعوام، وقضيتها في اللهو والمنام، كم أغلقت باباً على قبيح، كم أعرضت عن قول النصيح، كم صلاةٍ تركتها، ونظرة أصبتها، وحقوق أضعتها، ومناهي أتيتها، وشرور نشرتها، أنسيت ساعة الاحتضار؟! حين يثقل منك اللسان، وترتخي اليدان، وتشخصُ العينان، ويبكي عليك الأهل والجيران، أنسيت ما يحصل للمحتضَر حال نزع روحه؟! حين يشتد كربه، ويظهر أنينه، ويتغيّر لونه، ويعرق جبينه

أيها المسلمون، توبوا إلى ربكم قبل أن ينقطع من الحياة حبل الرجاء، وقبل أن تخلو المنازل من أربابها، وتؤذن الديار بخرابها، واغتنموا ممرَّ الساعات والأيام ، والليالي والأعوام، وليحاسب كل واحد منكم نفسه، فقد سعد من لاحظها وحاسبها، وفاز من تابعها وعاتبها. هذا باب التوبة مفتوح، وقوافل التائبين تغدو وتروح، فالبدار البدار إلى توبة نصوح ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً﴾ وهلموا إلى دار لا يموت سكانها، ولا يخرب بنيانها، ولا يهرم شبابها، ولا يتغير حُسنها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : «من يدخل الجنة ينعم لا يبأس، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه» أخرجه مسلم

اللهم اجعلنا ممن طال عمره وحسن عمله اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.