ذم الغضب

بسم الله الرحمن الرحيم

ذم الغضب

عباد الله: كظم الغيظ من صفات المتقين، والعفو عن الناس من سمات المحسنين، والإعراض عن الجهالات وصف لعباد الرحمن المخلصين. ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِين﴾ .

أخرج الإمام أحمد من حديث معاذ بن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كظم غيظاً، وهو يستطيع أن ينفذه، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور شاء» وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس الشديد بالصرعة، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» وفي البخاري ومسلم قال صلى الله عليه وسلم «سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر»

عباد الله : إن من الناس من لا يرعوي عن الغضب، إذا مسّه أحد بأذى ارتعش كالمحموم، وأنشأ يرغي ويُزبد ، ويلعن ويطعن، وكثيراً ما يذهب به غضبه مذاهب حمقاء،في البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: «لا تغضب» فردد مراراً قال: «لا تغضب» إنها وصية موجزة، وموعظة مختصرة، ولكنها جامعة مانعة، وهي تدل على أن الغضب جماع الشر، وأن التحرز منه جماع الخير، الغضب مصدر الهلاك، وعنوان الدمار، الغضب خلق أحمق، وتصرف أهوج، وداء مزعج، وخطر محدق، وشيطان أخرس؛ الغضب نار في الفؤاد، وجمرة في القلب، وشرار في العين، وحمرة في الوجه، وتوتر في الأعصاب، وانتفاخ في الأوداج، وحمق في التصرف، ومسارعة للانتقام، ومبادرة للتشفي؛ آثاره أليمة، ونتائجه عظيمة ،وعواقبه وخيمة؛ كم دمّرت به أسر، ومُزقت به بيوت، وقطّعت به أرحام، وأشعلت به فتن، وقامت بسببه محن، وزرعت بفعله إحن؛ رمّلت به نساء، وأريقت به دماء، يغضب الرحمن، ويفرّق الإخوان، ويعمي الأبصار، ويُصم الآذان. الغضب خلق ذميم، وتصرف لئيم، وفعل مشين، مفتاح لأكثر البلايا، وسبب لأعظم الرزايا، هذا إذا زاد عن حدّه، وخرج عن قصده، وإلا فالغضب موجود، وبعضٌ منه محمود.

الغضب هو غليان دم القلب طلباً لدفع الأذى، أو الانتقام ممن وقع منه الأذى. وإننا في هذا الواقع الذي نعيشه، والذي زادت فيه متطلبات الحياة، وتعقدت أمورها، وتعددت شرورها، أصبحنا نرى الغضب يسري في النفوس، ويجري في الدماء، فكثير من الناس في غضب دائم ، وقلق مرهق. أظلمت القلوب، وخافت النفوس، وتوترت الأعصاب، ظاهرةٌ أصبحت تُرى حتى في الأطفال الصغار، وقد نُقلت إليهم عدواه، وشملتهم بلواه، ظهرت عليهم أسبابه، وبدت فيهم آثاره.

كثرت الخصومات، عظمت الشكايات، تفككت أعداد من الأسر، وتمزقت فئام من الأواصر، كثر الطلاق، وعظم الفراق، واستشرى الشقاق، وأغلب ذلك بأسباب الغضب، فالحاجة إلى دراسة أسبابه واجبة، والاجتهاد في محاولة دفعه متحتم.

أيها المسلمون : الغضب على ثلاث مراتب:

المرتبة الأولى: أن يكون غضبه لله ، وهكذا كانت حال النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه كان لا ينتقم لنفسه ولكن إذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء. أخرجه البخاري ومسلم ، وكان عليه الصلاة والسلام إذا رأى أو سمع ما يكرهه الله، غضب لذلك وقال فيه ولم يسكت. دخل يوماً بيت عائشة رضي الله عنها فرأى ستراً فيه تصاوير فتلون وجهه وهتكه وقال: «إن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يصورون هذه الصور» رواه البخاري ومسلم

المرتبة الثانية: أن ينحطّ الغضب عن الاعتدال بأن يضعف في الإنسان أو يُفقَد بالكلية، وهذه الحال مذمومة شرعاً، لا سيما إذا تعلَّقت بحرمات الله وشعائره، قالت عائشة رضي الله عنها: ما ضرب رسول صلى الله عليه وسلم شيئاً قطّ بيده ولا امرأة ولا خادماً، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه قط فينتقم من صاحبه إلا أن يُنتهك شيء من محارم الله تعالى فينتقم لله تعالى. رواه مسلم

والمرتبة الثالثة: أن يطغى الغضب على العقل والدين، ولربما جرّ صاحبَه إلى ارتكاب جرائم كبيرة وموبقات كثيرة ، نسأل الله العفو والعافية .

وقد امتدح الله تعالى عباده المؤمنين الذين يملكون أنفسهم عند الغضب، يغفرون ويصفحون ، ويحلمون ويعفون، بقوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ

الخطبة الثانية

لقد كان لسلف الأمة مواقف مشكورة ، وأقوال مأثورة ، تبين منهجهم ، وترسم طريقهم :

قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ قال: الصبر عند الغضب، والعفو عند الإساءة، فإذا فعلوا عصمهم الله، وخضع لهم عدوّهم .

وقال الحسن: "أربع من كن فيه عصمه الله من الشيطان وحرمه على النار: من ملك نفسه عند الرغبة والرهبة والشهوة والغضب".

وقال ابن القيم – رحمه الله: "دخل الناس النار من ثلاثة أبواب: باب شبهةٍ أورثت شكاً في دين الله، وباب شهوةٍ أورثت تقديم الهوى على طاعته ومرضاته، وباب غضبٍ أورث العدوان على خلقه" .

وقال رجل لهارون الرشيد – وقد غضب عليه وكاد أن يعاقبه -: يا أمير المؤمنين أسألك بالذي أنت بين يديه أذلّ مني بين يديك، وبالذي هو أقدر على عقابك منك على عقابي لما عفوت عني ؛ فعفا عنه.

وشتم رجل الشعبي، فقال له: إن كنت كما قلتَ فغفر الله لي، وإن لم أكن كما قلتَ، فغفر الله لك .

وأغلظ رجلٌ القول لعمر بن عبد العزيز، فنظر إليه عمر، فقال: أردتَ أن يستفزني الشيطان بعزّ السلطان فأنال منك اليوم ما تناله مني غداً؟!.

أيها المسلمون : من الأسباب المعينة على دفع الغضب : أن يذكر الإنسان الله عز وجل وقدرته عليه. قال تعالى ﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾ قال عكرمة: يعني إذا غضبت. وأن يتذكر ما أعده الله من الثواب لمن كظم غيظه وعفا وأصلح ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ وعلى من غضب أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم: قال تعالى: ﴿وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾ استبّ رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم وأحدهما يسب صاحبه مغضباً، قد أحمرّ وجهه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» أخرجه البخاري.

والوضوء مما يعين على كظم الغيظ: قال صلى الله عليه وسلم: «إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ» رواه أبو داود. كما أن لتغيير الهيئة دور في أطفاء الغضب : قال صلى الله عليه وسلم: «إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإذا ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع» رواه أبو داود. والسكوت من أسباب ذهاب الغضب: قال صلى الله عليه وسلم: «علموا ويسّروا ولا تعسّروا، وإذا غضب أحدكم فليسكت» رواه أحمد.

فاتقوا الله عباد الله، وكونوا ممن إذا ما غضبوا هم يغفرون، وإذا ما أذنبوا هم يستغفرون، ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون.