فضائل أبي هريرة رضي الله عنه

بسم الله الرحمن الرحيم

فضائل أبي هريرة رضي الله عنه

عبادَ الله : أجمع المسلمون على أنّ الصحابة رأسُ الأولياء،وصفوة الأتقياء، قدوةُ المؤمنين،وأسوة المسلمين، وخير عبادِ الله بعدَ الأنبياء والمرسلين، شرّفهم الله برؤية خاتَم أنبيائه،وصُحبته في السّراء والضّرّاء، حتّى صاروا خيرةَ الخِيَرة وأفضلَ القرون بشهادة المعصوم صلى الله عليه وسلم . هم خيرُ الأمَم سابقِهم ولاحقهم، أولِهم وآخرهم، هم الذين أقاموا أعمدَة الإسلام، وشادوا قصورَ الدّين، قطعوا حبائلَ الشّرك، فهم أدقّ النّاس فهمًا، وأغزرُهم علمًا، وأقلهم تكلفا، وأصدقهم إيمانًا، وأحسنهم عملاً. كيف لا؟! وقد تربّوا على يدَي النبي صلى الله عليه وسلم ونهلوا من ماء معينه الصّافي وشاهدوا التنزيل .

روى أحمد عن عبد الله بن مسعود قال: "إنّ الله نظر في قلوب العباد فوجد قلبَ محمّد صلى الله عليه وسلم خيرَ قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه وابتعثه برسالته، ثمّ نظر في قلوب العباد بعدَ قلب محمّد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوبَ أصحابه خيرَ قلوب العباد، فجعلهم وزراءَ نبيّه، يقاتلون على دينه" .

تفرّغ فريق من الصّحابة لحمل أمانةِ السنّة، وذرعوا أقطارَ الأرض لينشروها، وآخرون حملوا أمانةَ الخلافة والرّعاية والجهادِ والحقوق، وعملوا على نقل الأمَم إلى الإسلام، يعرّبون ألسنتَها، ويطهِّرون نفوسَها، ويسلكونها طريقَ الله المستقيم، وقد بارك الله في أوقاتهم، وأتمّ على أيديهم ما لم يتحقّق لغيرهم، كانوا سبّاقين لكلّ خير، فرضي الله عن الصّحابة أجمعين.

نحن نحبّ أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا نفرّط في حبّ أحدٍ منهم، ولا نتبرّأ من أحدٍ منهم، ولا نذكرهم إلا بالخير، ثمّ الترضي عن جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم صغيرهم وكبيرهم أوّلِهم وآخرهم، وذكر محاسنِهم، ونشر فضائلهم،والاقتداء بهديِهم، والاقتفاء لآثارهم، نكفّ عمّا شجر بينهم،فقد شهدوا المشاهدَ، وسبقوا النّاس بالفضل، روى البخاري ومسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه» .

لقد اجتمع فيهم من عوامل الخير ما لم يتجمع في جيل قبلهم، ولن يتجمع في جيل بعدهم ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾  .

قال ابن كثير رحمه الله : "فقد أخبر الله العظيم أنه رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، فيا ويل من أبغضهم أو سبهم أو أبغض بعضهم أو سب بعضهم".

وقال صلى الله عليه وسلم: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» . كان منهم الخلفاء الراشدون، والأمراء الحازمون، والعلماء الربانيّون، والقادة الفاتحون، والعبّاد الزاهدون، يشهد بذلك أفعالهم وتنطق به آثارهم .

ومن جملة هؤلاء العلماء والزهاد الذين حفظوا لنا كنوز السنة والآثار النبوية راوية الإسلام الملهم، وحافظ الأمة المقدَّم أبو هريرة رضي الله عنه . ذلك الاسم الذي اقترن اسمه باسم رسول ربّ العالمين ، لِما له من كثرة الرواية وعلو الكعب في الحفظ والإتقان. فلم يخل ديوان من دواوين الإسلام إلاّ واسمه فيه منقوش مرسوم، ولم يمض مجلس من مجالس الذكر والعلم إلاّ وكان لذكره نصيب معلوم، فدعوات المؤمنين له في كل عصر متوالية، لم يسمع به أحد إلاّ أحبّه قبل أن يراه، وما جلس إليه أحد فملّ حديثه ولقياه، جالسه أبو صالح السمّان عشرين سنة، فما ملّ مجالسته بل تمنّى عند موته أن يحظى بجلسة معه، فقال: "ما كنت أتمنى من الدنيا إلاّ ثوبين أجالس فيهما أبا هريرة".

والناظر بعين الإنصاف في سيرة هذا المؤمن المحبوب، يجدها سيرة قد حازت من الفضائل كلّ مرقوب ومطلوب، فقد كان في الجاهلية يسمى بعبد شمس كما ترجم له البخاري في تأريخه، ولما جاء الإسلام غيَّر اسمه، فسمّي بعبد الرحمن، وأبو هريرة من قبيلة دوس ، فهو عبد الرحمن بن صخر الدوسي

لكنه رضي الله عنه لم يشتهر باسمه وإنّما اشتهر بكنيته، فكان يدعى بأبي هريرة، وكان ذلك في الجاهلية والإسلام. وسبب تكنيه بهذه الكنية ، ماأخرجه الحاكم بسند صحيح عن أبي هريرة قال: إنّما كنوني بأبي هريرة، لأني كنت أرعى غنمًا لأهلي، فوجدتُ أولاد هرة وحشيّة، فجعلتها في كمي، فلما رجعت إليهم قالوا: ما هذا يا عبد شمس! فأنت أبو هريرة فلزمتني بعدُ. ويقول أبو هريرة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوني أبا هر، ويدعوني النّاس أبا هريرة .

الخطبة الثانية :

فلقد نشأ أبو هريرة رضي الله عنه يتيمًا، وهاجر مسكينًا، وتأخر قدومه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وأسلم سنة سبع في غزوة خيبر، لم يشهد بدرًا ولا أحدًا ولا الأحزاب، فكانت مدة صحبته للنبيّ صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين.

أمّا الشرف فحدِّث عن البحر قبل أن تغوص، فقد نال أبو هريرة شرف دعوة النبي صلى الله عليه وسلم له وتوثيقه، فقد أخرج مسلم عن أبي هريرة قال: قلت: يا رسول الله! ادع الله أن يحببني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين ويحببهم إلينا. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم حبب عُبيدك هذا - يعني أبا هريرة - وأمّه إلى عبادك المؤمنين، وحبب إليهم المؤمنين»، فما خُلق مؤمن يسمع بي ولا يراني إلا أحبني.

إن الحديث عن أبي هريرة هو حديث عن أخلاق الإسلام وآدابه، وحديث عن صفوة رجال كانوا لهذا العلم من أوعيته وطلابه، أفنوا أعمارهم في خدمة هذا الدين، وخرجوا من هذه الدنيا ولم يشبعوا في ليلتين. وهو أحد هؤلاء الفحول النوادر، الذين دخلوا التاريخ كما دخله الأكابر، فأناروا العقول وفتحوا البصائر ، وهذبوا النفوس وأيقظوا الضمائر، وكيف لا يكون منهم وهو وارث العلم النبوي الشريف، الذي ضرب فيه بسهم وافر، حتى غدا ترجمان السنة وحافظها بلا منازع.

ولم يكن رضي الله عنه يندفع للعلم وكثرة الرواية، ويتأخر عن العمل به كأهل الغواية، بل ضم إليه الخشية وكثرة التعبّد، وحسن السمت والتزهد، أخرج البخاري عن أبي عثمان النهدي قال: تضيفت أبا هريرة سبعاً، فكان هو وامرأته وخادمه يتعقبون الليل أثلاثاً، يصلي هذا، ثم يوقظ هذا.

ويقول هو عن مسلكه في كل ليلة: إني لأجزئ الليل ثلاثة أجزاء، فثلث أنام، وثلث أقوم وثلث أتذكر أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وكان رضي الله عنه أماراً بالمعروف ونهاءً عن المنكر إذا رأى رجلاً ذا مال كثير، يوصيه بإخراج الزكاة ويحذره من مغبة منعها فنراه يقول: إياك وأخفاف الإبل، إياك وأظلاف الغنم.

ومن أخلاق أبي هريرة العالية، التي بوأته المكانة السامية، كثرة برّه بأمه، قال سعيد بن المسيب : وبلغنا أن أبا هريرة لم يكن يحج حتى ماتت أمه، أخرج مسلم عنه أنه قال: كنت أدعوا أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يوماً فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، قلت: يا رسول الله إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى علي، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اهد أم أبي هريرة» فخرجت مستبشراً بدعوة نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فلما جئت فصرت إلى الباب فإذا هو مجاف، فسمعت أمي خشف قدمي، فقالت: مكانك يا أبا هريرة وسمعت خضخضة الماء، قال فاغتسلت ولبست درعها وعجلت عن خمارها، ففتحت الباب ثم قالت: يا أبا هريرة أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته وأنا أبكي من الفرح، قال: قلت: يا رسول الله أبشر، قد استجاب الله دعوتك وهدى أم أبي هريرة، فحمد الله وأثنى عليه وقال خيراً.