تأملات في عرفات

بسم الله الرحمن الرحيم

تأملات من عرفات 7/12/1429هـ

إن الحمد لله …

أيها المسلمون :

اتقوا الله تعالى وأطيعوه ، واعملوا بأمره وراقبوه ، واجتنبوا نهيه ولا تعصوه ، وأعلموا أنكم تعيشون عشرا فاضلة أقسم الله تعالى بها في كتابه فقال« والفجر وليال عشر » وقال عنها النبي صلى الله عليه وسلم « ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام ، يعني أيام العشر ، قالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله ، قال : ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ، فلم يرجع من ذلك بشيء » رواه البخاري .

فاغتنموا رحمكم الله ما بقي منها قبل فواتها ، فالحياة مغنم ، والأيام معدودة ، والأنفاس محدودة ، والعمر قصير .

أمة الإسلام

ونحن نستقبل هذا الموسم العظيم ، نقلب صفحات الماضي ، وننظر في سجل الزمن ، لنقتفي آثار سلفنا الصالح ، وكأننا برسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته واقفاً بعرفة يدعو ربه ، والصحابة رضوان الله عليهم من حوله ، كلهم يبغي القرب منه ، ليفعل كفعله ، وهو يقول خذوا عني مناسككم فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا ، .نستلهم من تلك المواقف العبر ، ونجعلها زاداً للمسير . ونوراً يضيء الطريق .

إن للوقوف بعرفة مكانة في الإسلام ولم لا ؟ وفيها تسكب العبرات ، وتقال العثرات ، وتستجاب الدعوات ، وتغفر السيئات ، إنه لمشهد عظيم يصعب وصفه ، وموقف كريم طوبى لمن وقفه ، مخلصاً لربه ، مستناً بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم . في عرفة أكمل الله الدين وأتم النعمة :فقد روى البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً من اليهود قال له : يا أمير المؤمنين ، آية في كتابكم تقرؤونها ، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً ، قال أي آية ، قال : اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ، قال عمر : قد عرفنا ذلك اليوم ، والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم جمعة .

يوم عرفة هو اليوم المشهود :

الذي قال عنه تبارك وتعالى « وشاهد ومشهود » قال النبي صلى الله عليه وسلم « الشاهد يوم الجمعة ، والمشهود يوم عرفة » رواه الترمذي والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وفي عرفة يعتق الله من شاء من عبيده من النار ، أخرج مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عبيداً من النار من يوم عرفة وإنه ليدنو يتجلى ثم يباهي بهم الملائكة فيقول ما أراد هؤلاء » وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : يوم عرفة يوم المباهاة ، قيل لها وما يوم المباهاة ؟ قالت : ينزل الله يوم عرفة إلى السماء الدنيا ، ثم يدعو ملائكته ويقول انظروا إلى عبادي شعثاً غبراً ، بعثت إليهم رسولاً فآمنوا به ، وبعثت إليهم كتاباً فآمنوا به ، ويأتوني من كل فج عميق ، سألوني أن أعتقهم من النار ، فقد أعتقتهم ، فلم ير يوم أكثر أن يعتق فيه من النار من يوم عرفة ، وفي عرفة يباهي الله ملائكته بأهلها : فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء فيقول لهم : انظروا إلى عبادي هؤلاء جاءوني شعثاً غبراً »

وفي عرفة تمحى السيئات : فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . ... إلى أن قال : « وأما وقوفك بعرفة فإن الله تبارك وتعالى ينزل إلى سماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة ، فيقول هؤلاء عبادي جاءوا شعثاً غبراً من كل فج عميق ، يرجون رحمتي ، ويخافون عذابي ، ولم يروني ، فكيف لو رأوني ؟ فلو كان مثل رمال عالج ، أو مثل أيام الدنيا ، أو مثل قطر السماء ذنوباً ، غسلها الله عنك »رواه عبدالرزاق وغيره وصححه الألباني .

وقد كان السلف الصالح يتعلقون بأذيال الرجاء في ذلك اليوم ، قال ابن المبارك : جئت إلى سفيان الثوري عشية عرفة وهو جاث على ركبتيه وعيناه تهملان ، فقلت له : من أسوأ هذا الجمع حالاً ؟ قال : الذي يظن أن الله لا يغفر لهم .

وروي عن الفضيل أنه نظر إلى تسبيح الناس وبكائهم عشية عرفة فقال : أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل فسألوه دانقاً – يعني سدس درهم – أكان يردهم ؟ قالوا : لا ، قال : والله للمغفرة عند الله أهون من إجابة رجل لهم بدانق . ثم قال :

وإني لأدعو الله أطلب عفوه *** وأعلم أن الله يعفو ويغفر

لئن أعظم الناس الذنوب فإنها *** وإن عظمت في رحمة الله تصغر

الخطبة الثانية

أيها المسلمون :

عما قليل يقف إخوانكم بعرفة في ذلك الموقف العظيم، فهنيئاً لمن رزقه ، . يوم ينزل فيه أرحم الرحماء ويباهي أهل السماء بأهل عرفة ، ويدنو ثم يقول : ما أراد هؤلاء ، فلا إله إلا الله ، يجأرون إلى الله بقلوب محترقة ، ودموع مستبقة ، فكم فيهم من خائف أزعجه الخوف وأقلقه ، ومحب ألهبه الشوق وأحرقه ، وراج أحسن الظن بوعد الله فصدقه ، وتائب نصح لله في التوبة فقبله ، وهارب لجأ إلى باب الله وطرقه ، فكم هنالك من مستوجب للنار أنقذه الله وأعتقة ، وكم من أسير للأوزار فكه وأطلقه . ولا إله إلا الله يدعونه دعاء من أقبل إليه راجياً ، وعن وطنه نائياً ، ولكتابه تالياً ، ولربه ملبياً

لبيك قد لبيت لك *** لبيك إن الحمد لك

 والملك لا شريك لك *** ماخاب عبد سألك

يسألونه بمختلف اللغات ، وبمتغاير العبارات ، فسبحان من لا تختلف عليه اللغات ، وسبحان من خزائنه ملأء ، ويداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء .

أيها المسلمون : من فاته في هذا العام القيام بعرفة ، فليقم لله بحقه الذي عرفه ، ومن لم يقدر على نحر هديه بمنى ، فليذبح هديه هنا وقد بلغ المنا ، ومن لم يصل إلى البيت لأنه منه بعيد ، فليقصد رب البيت فإنه قريب أقرب إلى عبده من حبل الوريد .

ثم اعلموا أنه قد شرع لغير الحاج صوم يوم عرفة : فعن أبي قتادة رضي الله عنه قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة فقال : « يكفر السنة الماضية والباقية » رواه مسلم .

أيها المسلمون : ويحسن هنا أن ننبه على بعض أحكام العيد لما نستقبله بعد أيام قلائل من حلول عيد الأضحى ، بلغ الله الجميع إياه ، ورزقنا تقواه ، فأقول :

_ اختلف أهل العلم في حكم صلاة العيد بعد اتفاقهم على مشروعيتها ، فذهب بعضهم إلى أنها فرض عين ، وذهب آخرون إلى أنها فرض كفاية ، وقال آخرون إنها سنة مؤكدة ، وقد رجح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنها فرض عين على كل مسلم حيث قال: ولهذا رجحنا أن صلاة العيد واجبة على الأعيان .

_ وقداستحب بعض أهل العلم الغسل للعيد، و لبس الجديد والتطيب قال الإمام مالك رحمه الله سمعت أهل العلم يستحبون الطيب والزينة في كل عيد . وقال ابن القيم رحمه الله كان صلى الله عليه وسلم يلبس للخروج إلى العيدين أجمل ثيابه ، وكان له حلة يلبسها للعيدين والجمعة .

_ والسنة أن يأكل في الفطر قبل الصلاة ، ولا يأكل في الأضحى حتى يصلي ، فعن بريدة رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم ، ويوم النحر لا يأكل حتى يرجع فيأكل من نسيكته .

_ كما ينبغي الخروج للمصلى ماشياً إن تيسر وعليه السكينة والوقار وأن يخالف الطريق ، فيذهب من طريق ويرجع من آخر . ويخرج مكبراً لما ثبت أن ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا غدا يوم الفطر ويوم الأضحى يجهر بالتكبير حتى يأتي المصلى ، ثم يكبر حتى يأتي الإمام .

_ ولا بأس بحضور النساء مصلى العيد ، لكن لا يلبسن الثياب الفاخرة ولا يتطيبن ويعتزلن الرجال ، غير متبرجات ولا سافرات .