فضل محبة الله

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل محبة الله

جاءَ في الصّحيحين عن أنسِ بن مالك رضي الله عنهما قال: جاءَ رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالَ: يا رسولَ الله، متى الساعة؟ فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : «ما أعددتَ لها؟»، قال: ما أعددتُ لها مِن كثيرِ صلاةٍ ولا صَوم ولا صدَقة، ولكنّي أحبّ اللهَ ورسولَه، فقال صلى الله عليه وسلم: «فأنتَ مَع من أَحببتَ» قال أنس: فما فرِحنا بعدَ الإسلام فرحًا أشدَّ من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فإنّك مع من أحببتَ» وفي صحيح مسلم عن أنس أنه قال: فأنا أحبُّ الله ورسولَه وأبا بكر وعمر، فأرجو أن أكونَ معهم وإن لم أعمل بأعمالهم

قال الإمام ابن القيّم رحمه الله عن هذه المحبّة العظيمَة: "هي المنزلةُ التي فيها تنافَس المتنافِسون، وإليها شخَص العاملون, وإلى أمَلِها شمّر السّابقون, وعليها تفانى المحبون، وبروح نسيمِها تروَّح العابدون، وهي قوتُ القلوب ، وغذاء الأرواح ، وقرّة العيون، وهي الحياة التي مَن حُرِمها فهو في جملةِ الأموات، والنورُ الذي من فقَده فهو في بحارِ الظّلمات، والشفاءُ الذي من عدِمه حلّت بقلبِه جميعُ الأسقام، واللَّذَّة التي من لم يظفَر بها فعيشُه كلّه همومٌ وآلام، تاللهِ لقد ذهَب أهلها بشرفِ الدّنيا والآخرة؛ إذ لهم مِن معيَّةِ محبوبهم أوفرُ نصيبٍ" انتهى كلامه رحمه الله

عباد الله : ولنيلِ هذه المنزلةِ ، وللفوز بهذه الدرجة ، ذكر العلماءُ أسبابًا لتحصيلها ، وطرُقًا كثيرةً للفوز بها. أصول هذه الأسباب، وقواعِد هذه الطرُق مردُّها ما تتشنَّف أسماعنا به وما تصغِي آذانُنا إليه:

فمن هذه الأصول قراءةُ القرآن بتدبُّرٍ ، مع الفهمِ لمعانيه، والتعقُّل لأسرارِه وحِكَمه، فإنَّ رجلاً مِن أصحاب نبيّنا صلى الله عليه وسلم استجلبَ محبّة الله بتلاوة سورةِ الإخلاص, فظلّ يردِّدها في صلواته، فلمّا سُئل عن ذلك قال: إنها صِفة الرحمن, وأنا أحبُّ أن أقرأَها، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «فأخبروه أنَّ الله يحبّه» رواه البخاري

ومنها: التقرُّب إلى الله جلّ وعلا بالنّوافل، بعد الحرصِ العظيم على الالتزامِ بالواجباتِ ، والوقوفِ الجازمِ عندَ الحدود والفرائِض, فرسولنا صلى الله عليه وسلم يحكي عن ربِّه جلّ وعلا أنّه قال: «من عَادَى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرَّب إليّ عبدِي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضتُه عليه, ولا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبَّه, فإذا أحببتُه كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يبصِر به، ويدَه التي يبطِش بها، ورجلَه التي يمشي بها, ولئن سألني لأعطينَّه, ولئن استعاذني لأعيذنَّه» رواه البخاري

ومنها : دوامُ ذكر الله جلّ وعلا على كلّ حالٍ، ذكرٌ باللسان والقلب والعمل, فربّنا جلّ وعلا يقول ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ ونبيّنا صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ الله عزّ وجلّ يقول: أنا معَ عبدي ما ذكرَني وتحرّكت بي شفتاه» ويقول سيّد الذاكرين صلى الله عليه وسلم «سبق المفرِّدون»، قالوا: يا رسول الله, ومن المفـرِّدون؟ قال: «الذّاكرون الله كثيرًا والذّاكرات» رواه مسلم

ومن هذه الأصول : إيثارُ محابِّ الله جلّ وعلا، ومحابِّ رسوله صلى الله عليه وسلم على محابِّ النّفس عندَ غلبات الهوى, والتسنُّم إلى محابِّه عزّ وجلّ وإن صعُب المرتقى, فيؤثِر العبدُ رضَا الرّحمن عزّ وجلّ على رِضا غيره، وإن عظُمت فيه المحن، وثقلت فيه المُؤَن، وضعُف عنه الطّول والبدن، يقول ابن القيم رحمه الله: "إيثار رضا الله جلّ وعلا على غيره، هو أن يريدَ العبد ويفعلَ مافيه مرضاتِه ولو أغضب الخلقَ, وهي درجة الإيثار, وأعلاها للرّسل عليهم صلوات الله وسلامه, وأعلاها لأولي العزمِ منهم, وأعلاها لسيّد الخلقِ محمّد صلى الله عليه وسلم " وذلك ـ يا عباد الله ـ لا يكون ولا يتحقّق إلا بثلاثة أمور: أوّلها قهرُ هوى النفس، وثانيها مخالفةُ الهوى، وثالثها مجاهدةُ الشّيطان وأوليائه.

ومنها : أن يطالعَ القلب أسماءَ الله وصفاتِه, وأن يشاهدَها ويعرِفها, ويتقلّب في رياض هذهِ المعرفة، فمَن عرف اللهَ جلّ وعلا بأسمائه وصفاتِه وأفعالِه التي أثبتها الوحيَان، كما اعتقدَه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابتُه ومن تبعهم بإحسان، اعتقادًا كما جاءَت في النصوص، من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ولا تمثيلٍ ولا تكييفٍ ولا تأويل، أحبَّه الله جلّ وعلا وأكرَمه وأرضَاه, فربّنا جلّ وعلا يقول ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَ﴾ وثبت عن المصطفى أنّه قال: «إنّ لله تسعةً وتسعين اسمًا، من أحصاها دخل الجنة»

فاللهم اجعلنا من عبادك الصالحين ، ومن حزبك المفلحين .

الخطبة الثانية

فمن الأسباب الجالبة لمحبة الله جل وعلا : مشاهدةُ برِّه بعباده وإحسانه عليهم, والتعرُّفُ على آلائه ونعَمِه الظاهرةِ والباطنَة, فإنها داعيةٌ إلى محبّته سبحانه، فالإنعام والبرُّ،معاني تسترقّ مشاعرَ الإنسان, وتستَولي على أحاسيسِه, وتدفَعه إلى محبّة مَن يُسدي إليه النّعمةَ، ويوصِل إليه المعروفَ, ولا منعِم ولا محسنَ إلاّ الله, فهو المحبوبُ على الحقيقة, والمستحِقّ للمحبّة كلّها هو سبحانه وبحمده, والإنسانُ بالطّبع يحبّ من أحسنَ إليه ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ وحينئذٍ إذا انطلقَ المسلم مِن هذا المنطلَق فإنّه حريٌّ بالتّوفيق للقيام بواجِب الشّكر لله جلّ وعلا باللّسان والقلبِ والعمل, ويفوز بكلّ خير ويسعَد بكلّ عاقبةٍ حميدة, فربّنا جلّ وعلا وعد بالمزيد لمن شكره ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ﴾ .

ومن هذه الأصول : انكسارُ القلب بكلّيّته بين يدَي الله عزّ وجل, والتذلّل له سبحانه, والخشوعُ لعظمته بالقول والبدَن ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونُ فِي الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾.

ومنها: تحيُّن وقتِ النزول الإلهيّ لمناجاتِه تعالى ، وتلاوةِ كلامِه، والتأدُّبِ بآدابِ العبوديّة بين يدَيه, ثمّ ختمُ ذلك بالاستغفار والتّوبة النّصوح إليه سبحانه, فربّنا جلّ وعلا يقول عن أقوام ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ . فأصحاب اللّيل هم أشرفُ أهلِ المحبّة؛ لأنّ قيامَهم في اللّيل بين يدَي الله جلّ وعلا، يجمع لهم جلَّ أسباب المحبّة وأصولها, ولهذا فلا عجَب أن ينزلَ أمينُ السّماء جبريل عليه السلام على أمينِ الأرض محمّدٍ صلى الله عليه وسلم ويقول له: واعلَم أنّ شرَفَ المؤمن قيامُه بالليل, وعزَّه استغناؤه عن النّاس.

ومن هذه الأصول : محبّة الصّالحين والسّعيُ إلى القُرب منهم ومجالستهم، فرسول الله يقول «أوثقُ عرى الإيمان الحبُّ في الله والبغض في الله» .

وآخر هذه الأصول البعدُ عن كلِّ سببٍ وطريق يحول بينَ القلبِ وبين اللهِ جلّ وعلا, وذلك لا يتحقّق ولا يكون إلاّ بالبُعد عن أنواعِ السيّئات، وألوانِ المحرّمات، وصوَر الموبقات، فالقلوبُ إذا فسَدَت فلن تجدَ فائدةً فيما يصلِحها من شؤون دنياها, ولن تجدَ نفعًا أو كسبًا في أخراها ﴿يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ .

عباد الله : إن إدراكَ محبّة الله ، منزلةٌ عظيمة، ومِنّة جسيمة، وسعادةٌ أبديّة، وحياةٌ طيّبة زكيّة, فعلى العبدِ الموفَّق، السعيُ لنيلها بكلِّ طريقٍ محمّديٍّ، ونهج نبويٍّ، صحّةً في الاعتقاد، وسلامةً في التعبُّد، وإحسانًا في الأخلاق، وجملةُ ذلك في تحقيق الإيمانِ الصّحيح، وتقوى الله جلّ وعلا سرًّا وجهرًا ﴿أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ .