من الأمل إلى العمل

بسم الله الرحمن الرحيم

من الأمل إلى العمل

عباد الله: يا من صام نهار رمضان، ويا من قام ليل رمضان، إن المساجد بعده تشكوا حالها إلى الله تعالى، والله تعالى يقول ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ والنبي صلى الله عليه وسلم ينصح أبا عمرة سفيان بن عبد الله كما في (م) حين قال: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك؟ فقال: «قل آمنت بالله ثم استقم» وكانت عائشة تقول كما في (خ م) كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملا أثبته . وفيهما أيضا من حديثها «أحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها وإن قل». فما لنا ما أن يحل بنا العيد وينتهي رمضان، حتى ينقض بعضنا غزله، ويترك عمله:

ما العيد إلا أن نعود لديينا *** حتى يعود نعيمنا المفقود

ما العيد إلا أن يرى قرآننا *** بين الأنام لواؤه معقود

ما العيد إلا أن نُكَوِّن أمة *** فيها محمد لا سواه عميد

كونوا دعاة للفضيلة واعلموا *** أن الرسول عليكم لشهيد

عباد الله: إن كل أمم الأرض تفخر بتاريخها، وتعتز بأمجادها بل وتتغنى ببطولات رجالها وأبنائها، وإن أحق أمم الأرض بهذا الاعتزاز والفخار، بل بجدارة واقتدار، بل بشهادة العزيز الغفار، هي أمة نبينا المختار، ولم لا؟ وقد قال ربنا عز وجل ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ ولكن وللأسف، لقد تحولت الأمة اليوم، إلى قصعة مستباحة لكل أمم الأرض، فقد أحاطت بها برا وبحرا وجوا، وأصبحت الآن، غثاء من البشر إلا من رحم الله، تعيش على ضفاف مجرى الحياة، كدول أو دويلات متناثرة متصارعة، تفصل بينها حدود جغرافية مصطنعة، ونعرات قومية، وترفرف على سمائها، رايات لا أصل لها في دين الله تعالى.

عباد الله: لا ينبغي أن ندفن رؤوسنا في الرمال كالنعام، وننكر هذا الواقع الذي تحياه أمتنا اليوم، لقد ذلت بعد عز، وجهلت بعد علم، وضعفت بعد قوة، وأصبحت في ذيل القافلة، بعد أن كانت تقود البشرية كلها بجدارة واقتدار، لقد أصبحت الأمة اليوم، تتسول على موائد الفكر الغربي، العلمي والطبي، والاقتصادي والعسكري، بعد أن كانت منارة تهدي الحيارى والتائهين، لكن مع ذلك كله، لا ينبغي لهذه الحالة أن تفقدنا الثقة بالله تعالى، أو أن تفقدنا الثقة في ديننا، وفي وعد الصادق المصدوق نبينا صلى الله عليه وسلم، نعم الأمة مرضت، ونامت، وطال نومها، لكنها ما ماتت ولن تموت، بموعود الله؛ لأن الله تعالى شرفها بحمل الرسالة الخاتمة، التي ستبلغها للعالم، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

عباد الله: إذا كان هذا حال أمتنا اليوم، فليتأمل كل واحد منا مع نفسه، لماذا وصلت الأمة إلى هذه الحالة؟ لأننا بكل أسف، من خلال نظرة ضيقة للواقع الذي تعيشه الأمة الآن، نجعل مشجبا أو آخر، لنعلق عليه كل أخطائنا وهزائمنا، فتارة نعلق الأخطاء ونبرر لأنفسنا، بأن ذلك من الأعداء، وتارة على الحكام، وثالثة على العلماء، وينظر كل واحد منا إلى القذاة في عين أخيه، ويغمض عينه عن هذا العود في عينه. لماذا لا يفتش كل واحد منا في خطئه، في تقصيره، في عيب نفسه، لما تساءل الصحابة في أحد وقالوا: كيف نهزم وقائد المعركة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ كيف نهزم والمشركون هم الأعداء؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعرض للقتل، وتكسر رباعيته، ويشج وجهه، وتدخل حلقتا المغفر في وجنتيه الشريفتين، بل وينتشر خبر قتله، حتى ألقى بعض الصحابة السلاح وقالوا: ماذا نصنع بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مر عليهم أنس بن النضر وقال: قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في ( خ م ). وقتل في ذلك اليوم سبعون بطلا من أبطال الصحابة، فنزل القرآن ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ﴾ فالجواب يا عباد الله: في آيات محكمات ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ والأمة غيرت وابتعدت كثيرا عن التوحيد الخالص، الذي علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبدأت تتجرد في كثير من الأحيان، عن هذا الثوب الذي كساها إياه أمام الموحدين، وقدوة المحققين، وسيد المرسلين، ففي جانب العقيدة غيرت، هناك صور من مظاهر الشرك لا زالت موجودة، وفي جانب العبادة غيرت، وفي جانب الشريعة غيرت، وفي جانب الأخلاق غيرت، فالمجتمع الذي رباه النبي صلى الله عليه وسلم ورفل في ثوب العز والتوحيد والكرامة، وأقام للإسلام دولة في فترة قصيرة، بدأت الأمة تبتعد عنه، أصل عزها، ونبع شرفها، فوقعت في هذه الحالة. وينبغي أن نعلم أن ما وقعت الأمة فيه اليوم، إنما وقع وفق سنن ربانية لله في كونه، لا تتبدل ولا تتغير، ولن تعود الأمة إلى مكانتها إلا وفق هذه السنن، فأسأل الله عز وجل أن يبصرنا بها، وأن يردنا إليها رداً جميلا.

الخطبة الثانية:

عباد الله:

لئن عرف التاريخ أوسا وخزرجا *** فلله أوس قادمون وخزرج

وإنّ كنوز الغيب تُخفي طلائعـًا *** حرة رغم المكائد تخـرج

فمع هذا الواقع الأليم النازف، الذي أصاب كثيرا منا بشيء من القنوط واليأس، ينبغي أن نلمح فيه فرجا قريبا، وفجرا صادقا، فمن السنن الربانية الثابتة، أن الله جل وعلا يمحص الأمة بالفتن والمحن والابتلاءات، فهذه الدماء التي تنزف على أرض فلسطين، وعلى أرض العراق، وعلى أرض الشيشان، تعيد للمجروحين البسمة، أو شيئا من الأمل، في وقت يتلمس فيه كل مسلم صادق بصيصا من النور في هذا الظلام الدامس.

لقد تعرضت الأمة لمحن قاسية، وإحن عاتية، أنسيتم فتنة الردة، أنسيتم فتنة التتار، الذين هجموا على أرض العراق، وذبحوا المسلمين فيها أربعين يوما متتالية، حتى ارتفعت الجثث ووصلت إلى ركب الخيول، ومنعت صلاة الجماعة في بغداد أربعين يوما، لم يستطع مسلم أن يخرج من بيته ليصلي في بيت الله، أنسيتم فتنة الصليبيين، الذين هجموا على المسجد الأقصى، ومنعوا الصلاة فيه واحدا وتسعين عاما، ووضعوا الصلبان على كل شبر فيه، أنسيتم فتنة القرامطة، الذين هجموا على الطائفين في بيت الله الحرام، واقتلع المجرم الحجر الأسود من الكعبة شرفها الله، وظل يصرخ في صحن الكعبة كالثور الهائج المجنون: أين الطير الأبابيل؟ أين الحجارة من سجيل؟ وظل الحجر الأسود بعيداً عن الكعبة المشرفة، واحدا وعشرين عاما، طاف المسلمون حول البيت وهو خال من الحجر، فتنة والله تعصف بالقلوب.

عباد الله: هذا تاريخ لا بد أن تعرفه الأمة، حتى لا تشعر باليأس، وحتى لا تشعر بالقنوط، حتى تمتلئ القلوب من الأمل، لتتحرك للعمل، وقد غير الله الحال، والمسلمون يصلون الآن في المسجد الأقصى وفي كل مساجد فلسطين، ويصلون الآن في بغداد، وفي كل مساجد العراق،  والحجر موجود الآن في بيت الله تعالى، ولنعلم جميعاً، أنه لا مهرب من الله إلا إليه، لقد سدت الطرق، وأغلقت الأبواب، في وجوه الصادقين الذي تنزف قلوبهم دما على هذا الواقع، فلا مخرج من هذه الأزمة الطاحنة، والفتنة الهالكة، إلا أن نرجع من جديد إلى الله تعالى، لا بالدعاء فحسب، بل بالدعاء والعمل، كل يبذل لدين الله تعالى على قدر طاقته، وفق سنة نبيه، فنحن لا نريد أن تتحول الأمة كلها إلى دعاة على منابر المساجد، وإنما يجب أن تتحول الأمة كلها إلى دعاة على منبر الإسلام، كل في موقعه، بعد أن يشهد لهذا الدين شهادة عملية على أرض الواقع، أن تعرف ربها جل وعلا، وأن تثق في الله جل وعلا، وأن تجدد إيمانها ويقينها في الله سبحانه، وأن تعلم علم اليقين أن النصر من عند الله ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ﴾ .