فضـل القرآن

بسم الله الرحمن الرحيم

فضـل القرآن

الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير، يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور، أحمده سبحانه على قديم إحسانه، وتواتر نعمه، حمد من يعلم أن مولانا الكريم علمه ما لم يكن يعلم، وكان فضله عليه عظيما، وأسأله المزيد من فضله، والشكر على ما تفضل به من نعمه، إنه ذو فضل عظيم. وصلى الله على محمد عبده ورسوله ونبيه، وأمينه على وحيه وعباده، صلاةً تكون له رضا، ولنا بها مغفرة، وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا طيبا، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ... أما بعد:

عباد الله: القرآن عصمة لمن اعتصم به، وهدى لمن اهتدى به، وغنى لمن استغنى به، ونور لمن استنار به، وحرز من النار لمن اتبعه، وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين، أمر الله سبحانه وتعالى خلقه أن يؤمنوا به، ويعملوا بمحكمه؛ فيحلوا حلاله، ويحرموا حرامه، ويؤمنوا بمتشابهه، ويعتبروا بأمثاله، ويقولوا آمنا به كل من عند ربنا، ثم وعدهم على تلاوته والعمل به، النجاة من النار، والدخول إلى الجنة، ثم ندب خلقه إذا تلوه أن يتدبروه، ويتفكروا فيه بقلوبهم، وإذا سمعوه من غيرهم أحسنوا استماعه، ثم وعدهم على ذلك الثواب الجزيل، ثم أعلم خلقه أن من تلا القرآن وأراد به متاجرة مولاه الكريم، فإنه يربحه الربح الذي لا بعده ربح، ويعرفه بركة المتاجرة في الدنيا والآخرة ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِراًّ وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً﴾ ثم إن الله تعالى وعد من استمع إلى كلامه فأحسن الأدب عند استماعه، بالاعتبار الجميل، ولزوم الواجب لاتباعه والعمل به، أن بشره الله منه بكل خير، ووعده على ذلك أفضل الثواب ﴿فَبِشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾  وقد أخبرنا الله تعالى عن الجن في حسن استماعهم للقرآن، واستجابتهم لما ندبهم إليه، ثم رجعوا إلى قومهم فوعظوهم بما سمعوا من القرآن بأحسن ما يكون موعظة ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً﴾ ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ (29) قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ (30) يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ﴾ وأخبر الله جل ذكره أن المستمع بأذنيه ينبغي له أن يكون مشاهدا بقلبه ما يتلو وما يستمع؛ لينتفع بتلاوته للقرآن وبالاستماع ممن يتلوه ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ وقد حث الله خلقه على أن يتدبروا القرآن ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً﴾ .

يقول ابن مسعود: لا تنثروه نثر الدقل، ولا تهذوه هذ الشعر، قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة. ويقول عثمان – رضي الله عنه – والله لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام ربنا عز وجل ﴿وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ

عباد الله : أنزل الله القرآن لا ليتلى في الإذاعات والمناسبات ، ولكن لتطبق تعاليمه في كل المجالات ، يحتكم إليه الناس في تصرفاتهم ، فما وافق تعاليمه أخذوا به، وما خالفها تركوه .  ينظم للأمة حياتها، ويضبط سلوكها وتصرفاتها ، ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ وقد أدرك أعداء الإسلام هذه الحقيقة فتراهم يحاولون  أن يردوا المسلمين عن دينهم، بالقوة تارة ،  وتارة بتشكيكهم بهذا الدين ، وثالثة بإبعاد شريعة القران عن حياة المسلمين واخضاعهم للشرائع والقوانين الوضعية ، لأنهم يوقنون انهم لن يستطيعوا النيل من المسلمين ماداموا متمسكين بدينهم ، متبعين شريعة قرانهم.

يقول الحسن البصري: إلزموا كتاب الله تعالى، وتتبعوا ما فيه من الأمثال، وكونوا فيه من أهل البصر، ثم قال: رحم الله عبداً عرض نفسه وعمله على كتاب الله، فإن وافق كتاب الله حمد الله وسأله المزيد، وإن خالف كتاب الله أعتب نفسه فيرجع من قريب.  فما لكم يا مسلمون ،عن كتاب ربكم معرضين ، وعن تدبره غافلين ، وبه غير مكترثين ، انظروا إلى عظمته في نفوسكم ، وكم قلت ، تأملوا مواضع أقدامكم ، فعن تقفي تعاليمه قد زلت ، تفقدوا ألسنتكم ، فمن ترداده قد ملت ، فأروا الله من أنفسكم خيراً ، فأنتم اليوم في شهر القرآن .

الخطبة الثانية:

الحمد لله:

عباد الله: ينبغي للمؤمن أن يجعل القرآن والسنة دليله على كل خلق حسن جميل، وأن يكون حافظا لجميع جوارحه عما نهي عنه، إن مشى فبعلم، وإن قعد فبعلم، يجتهد ليسلم الناس من لسانه ويده، لا يجهل، وإن جهل عليه حلم، لا يظلم، وإن ظلم عفا، لا يبغي على أحد، وإن بغي عليه صبر، يكظم غيظه ليرضي ربه ويغيظ عدوه، ألزم نفسه الواجب، فحذر مما حذره مولاه الكريم، ورغب فيما رغبه، ومن كانت هذه صفته عند تلاوته للقرآن، وعند استماعه من غيره، كان القرآن له شفاءً، فاستغنى بلا مال، وعز بلا عشيرة، وأنس مما يستوحش منه غيره، وكان همه عند التلاوة للسورة إذا افتتحها متى أتعظ بما أتلو، ولم يكن مراده متى أختم السورة، وإنما مراده متى أزدجر، متى أعتبر، إذا درس القرآن فبحضور قلب، همته اتباع ما أمر الله، والانتهاء عما نهى، همته متى أستغني بالله عن غيره، متى أكون من المتقين، متى أكون من المحسنين، متى أكون من المتوكلين، متى أكون من الخاشعين، متى أكون من الصابرين، متى أكون من الصادقين، متى أكون من الخائفين، متى أكون من الراجين، متى أزهد في الدنيا، متى أرغب في الآخرة، متى أتوب من الذنوب، متى أعرف قدر النعم المتواترة، متى أشكر الله عليها، متى أعقل عن الله خطابه، متى أفقه ما أتلو، متى أغلب نفسي على ما تهوى، متى أحفظ لساني، متى أغض طرفي، متى أحفظ فرجي، متى أستحي من الله حق الحياء، متى أشتغل بعيبي، متى أصلح ما فسد من أمري، متى أحاسب نفسي، متى أتزود ليوم معادي، متى أكون بالله واثقا، متى أكون بزجر القرآن متعظا، متى أكون بذكره عن ذكر غيره مشتغلا، متى أحب ما أحب، متى أبغض ما أبغض، متى أنصح لله، متى أخلص له عملي، متى أقصر أملي، متى أتأهب ليوم موتي وقد غيب عني أجلي، متى أفكر في خلوتي مع ربي، متى أحذر مما حذرني منه ربي، من نار حرها شديد، وقعرها بعيد، وغمها طويل، لا يموت أهلها فيستريحوا، ولا تقال عثرتهم، ولا ترحم عبرتهم، فقال منهم قائل: يا ليتني قدمت لحياتي. وقال آخر: رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت، وقال ثالث: يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وقال رابع: يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلانا خليلا، وقالت فرقة منهم ووجوههم تتقلب في أنواع العذاب: يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا، فهذه النار يا معشر المسلمين، يا حملة القرآن حذرها الله المؤمنين فقال ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾.

 عباد الله: المؤمن العاقل إذا تلا القرآن كان كالمرآة، يرى بها ما حسن من فعله وما قبح منه، فما حذره مولاه حذره، وما خوفه به من عقابه خافه، وما رغبه فيه مولاه رغب فيه ورجاه، فمن كانت هذه صفته أو ما قارب هذه الصفة، فقد تلاه حق تلاوته، ورعاه حق رعايته، وكان له القرآن شاهدا وشفيعا،رلب وأنيسا وحرزا، ومن كان هذا وصفه، نفع نفسه وأهله، وعاد على والديه وولده كل خير في الدنيا والآخرة.