فضائل الحج وعشر ذي الحجة

بسم الله الرحمن الرحيم

فضائل الحج وعشر ذي الحجة

أيّها المسلمون: تتوالى مواسمُ الخيرات، محفوفةً بفضلِ الزّمان، وشرَف المكان، وإن من أفضل الأعمال في هذه الأيام،  الإهلال بالحج، والتقرب إلى الله جل وعلا به، فأفئدةُ المسلمين تهفو لبيتٍ معمور، يتّجهون إليه كلَّ يوم في صلاتهم ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ﴾ وأنظارُهم تتطلّع لبقاعٍ مباركةٍ،  تتجدّد فيها العِبر والعظات ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ

الأمنُ والأمان في ربوعِه ﴿وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً﴾ نفعُه متعدٍّ للحاضر والباد ﴿لّيَشْهَدُواْ مَنَـٰفِعَ لَهُمْ﴾ الأرزاق إليه دارّة، والنِعم حوله متوالية ﴿أَوَلَمْ نُمَكّن لَّهُمْ حَرَمًا ءامِنًا يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَىْء

حجّ بيت الله الحرام، بابٌ رحبٌ لحطِّ الأوزارِ والآثام، يقول صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص «أما علمتَ أنّ الإسلامَ يهدِم ما كان قبله، وأنّ الهجرةَ تهدم ما كان قبلها، وأن الحجّ يهدم ما كان قبله» رواه مسلم

فيه غسل أدرانِ الخطايا والرزايا، يقول صلى الله عليه وسلم «من حجّ فلم يرفث ولم يفسق رجَع كيومَ ولدته أمه» متفق عليه، ثوابُه جناتُ النعيم، يقول صلى الله عليه وسلم «الحجّ المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة» رواه مسلم

في الحجّ منافع وعبر؛ التجرُّد من المخيط، يذكُّرٌ بلباس الأكفَان بعد الرحيل، وفيه إرشادٌ إلى التواضع ونبذ الكبرياء، الجمع كلُّه إزارٌ ورداء، الرأس خانعٌ للدّيان، هيأته الخضوع والاستكانة للرحمن.

إخلاص العمل لله وإفرادُه بالعبادة،  شعار الحجّ وبه افتتاح النُسُك: "لبيك اللهم لبيك". فيها إعلان التوحيد ونبذ الشرك: "لبّيك لا شريك لك لبيك". فيها تذكيرٌ بإسداءِ النعَم والثناءُ على المنعِم: "إن الحمد والنعمة لك".

وفي رؤيةِ بيتِ الله المعمور، مشهدٌ لإخلاص الأعمال لله، الخليلُ وابنُه يرفعان أشرفَ معمور، ومع هذا يسألان الله قبول العمل ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرٰهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَـٰعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ﴾ .

وفي وضع النواصي بين يدَي ربِّها، حَلقًا أو تقصيرًا، استسلامٌ لهيمَنة الله، وخضوعٌ لعظمتِه، وتذلّلٌ لعزّته.

وللطواف وقعٌ على القلوب،  ومهابةٌ في النفوس،  فلا موطنَ على الأرض، يُتقرَّب فيه إلى الله بالطواف، سِوى ما حول الكعبة المشرّفة.

وفي تقبيلِ الحجر الأسودِ، حسنُ الانقياد لشرع الله، وإن لم تظهر الحكمة، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: والله إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضرّ، ولولا أني رأيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقبّلك ما قبّلتُك .

وفي مناسكِ الحجّ درسٌ في التقيُّد بالسنّة وحسنِ الاتباع، يقول صلى الله عليه وسلم «خذوا عني مناسككم»

أيّها المسلمون: يومُ عرفةَ يومٌ أغرّ، هو ملتَقى المسلمين المشهود، يومُ رجاءٍ وخشوع وذلٍّ وخضوع، يومٌ كريم على المسلمين، أفضلُ الدعاء دعاء ذلك اليوم، والإكثار فيه من كلمة التقوَى خيرُ الكلام، يقول صلى الله عليه وسلم «خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلتُ أنا والنبيون من قبلي: لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمدُ وهو على كل شيء قدير»

يومٌ يكثُر فيه عُتَقاءُ الرحمن،  ويباهِي بهم ملائكتَه المقرّبين، يقول صلى الله عليه وسلم : «مامِن يوم أكثر من أن يُعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟» رواه مسلم

وصيامه لغير الحاج من أعظم القربات، لما في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أحتسب على الله أن يكفِّر السنةَ التي قبله والسنة التي بعده»

والدعاءُ عظيمُ المكانة، رفيعُ الشأن، يرفع المسلم إلى مولاه حوائجَه، ويسأله من كرمه المتوالي، فتقيّد بشروطِه، وتمسّك بآدابه، واحذَر من الوقوع في شيء من موانع إجابته، وتحرَّ الأوقات والأمكنةَ الفاضلةَ لقبوله، وتوجَّه إلى الله بقلبك امتثالاً لأمره في قوله: ﴿فَٱدْعُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدّينَ﴾ وارفع له سؤلَك، وناجِه بكروبِك، وأيقِن بتحقيق الإجابة، وألحَّ على الكريم في الطلب، ولا تيأس من تأخُّر العطاء، ففي التأخير رحمةٌ وحكمة، وهو الخلاق العليم ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ

من رام حجاً مبروراً، امتثلَ قولَه صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري «من حجَّ لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدتْه أمّه» من تطلَّع إلى حجّ مبرور أدَّب جوارحَه، فلا تنظر العين نظرة فاحشة، ولا ينطِق اللسان بألفاظ طائشة، ولا تمتدّ اليد بأذًى إلى أحد، ولا ينطوي القلبُ على بغضاء أو حسد.

الخطبة الثانية:

عباد الله: يُطلّ على الأمّة الإسلاميّة مواسمُ عظيمة، وتحلّ بهم أوقاتٌ فاضلة، هي للمؤمنين مغنَم لاكتساب الخَيرات ورفعِ الدّرجات، وهي لهم فُرصة لتحصيل الحسناتِ، والحَطّ من السيِّئات. إنّها أيّام العشرِ من ذي الحجّة، هي أعظمُ الأيّام عند الله فضلاً، وأكثرها أجرًا،  وللعمل الصالح فيها مزية عن غيرها من الأيام ففي الحديث: «ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام، يعني أيام العشر. قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء» البخاري.

كان السلفُ إذا دخلت أيامُ العشر من ذي الحجّة، يجدّون في البرّ والطاعة، ويكثرون من الذكر والدعاء وتعظيم الله.

ومما هو مشروع في هذه الأيام الإكثار من صلاة النافلة، والتهليلِ والتكبير، والتحميد وقراءة القرآن، والصدقة على الفقراء والمساكين، وإغاثة الملهوفين، وبرّ الوالدين وقيام الليل، وغير ذلك من الأعمال الصالحة.  ففي مثل هذا الموسم المبارك، يزداد فضلها وتتأكد مشروعيتها، والعمل الصالح في هذه العشر، خير وأفضل من كثير من الأعمال العظيمة، حتى الجهاد في سبيل الله،  إلا لمن خرج بنفسه وماله في الجهاد، فبذل ماله وأراق دمه، فياله من فضل وأجر لا يفوت إلا المحروم.

ومما يُشرع تكبيرُ الله تعالى وتعظيمه، ويكون التكبير المطلَق في جميع الأوقات، من ليل أو نهارٍ إلى صلاة العيد، أما التكبيرُ المقيَّد، فهو الذي يكون بعد الصلوات المكتوبةِ،  ويبدأ لغير الحاجّ من فجر يومِ عرفة، وللحاجّ من ظهر يوم النحر، ويستمرّ إلى صلاة عصرِ آخر أيام التشريق.

ومما يشرع إعدادُ الأضحية، ومن أراد أن يضحِّي ودخل شهر ذي الحجة، فلا يحلّ له أن يأخذ شيئاً من شعره أو أظفاره حتى يذبحَ أضحيتَه، ففي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم : «إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحّي فليمسِك عن شعره وأظفاره».

وأما من يضحّى عنه، وهم أهل البيت فلا حرج عليهم أن يأخذوا شيئا من ذلك،  لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى من أراد أن يضحي وأهل البيت يضحى عنهم ولا يضحّون،

فهنيئاً ثم هنيئاً لمن عزم على استغلال هذه الأيام، بالعمل الصالح وتحري الخير، والإكثار من الذكر والدعاء، وأداء القربات المشروعة، رجاء أن يكون من المرحومين المنافسين في الخيرات

أيّها المسلمون: المغبونُ من انصرَف عن طاعة الله، لا سيّما في هذه الأيام، والمحروم من حُرم رحمةَ الله ، المأسوفُ عليه من فاتت عليه هذه الفُرَص، وفرَّط في هذا الفضل. ويا خسارةَ مَن دعَته دواعي الخير فأعرض عنها.

فاغتنِموا -رحمكم الله- هذه الأيامَ بالاجتهاد في العبادةِ بشتّى أنواعها، والأعمال الصالحة بمختلف صوَرِها .