ضبط العواطف

بسم الله الرحمن الرحيم

ضبط العواطف

أيها المسلمون، تتجاذب المجتمعات الإسلامية اليوم موجات إلحادٍ وحملاتُ تنصيرٍ، وفتن عاتية ، وحرب سافرة، عبر وسائل إضلال ، يقوم عليها دعاة شر وفساد، وزيغ وعناد، في محاولات متلاحقة لتغريب هذه المجتمعات وصدها عن دينها، وحرفها عن مسارها، تعبث بثوابتها، وتغيِّر من عاداتِها، وتعصف بمقدراتها، وتذرها وقد أسِن مشربها، وفسدت حياتها.

أيها المسلمون: إنّه لا رسوخ لقدم، ولا ثبات لمعتقد، ولا بقاء لفكر، ولا تحقق لوعد، ولا أمن من عقاب، ولا سلامة من تلك العاديات، إلاّ بالتمسك الشديد بوحي الله الذي أوحاه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم فهو العصمة الواقية، والحجة البالغة، والسراج الذي لا يخبو ضياؤه، ولا يخمد سناؤه ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ .

ولقد كان أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين يتلقون الوحي بالتعظيم والتسليم، ممتثلين لأمره، منقادين لحكمه، خاضعين لإرشاده، لا يترددون في ذلك ولا يتخيرون ، إنّه أمر الله جلّ جلاله الذي لا خيار معه إلاّ التسليم والانقياد ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ .

قال الزهري رحمه الله: "من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم" إنّ المأمن الأمين ، والحصن الحصين ، من فتن عصركم ومغرياته، إنّما هو التمسك بالكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمّة، يقول حذيفة بن اليمان لعامر بن مطر: "كيف أنت إذا أخذ النّاس طريقًا ، وأخذ القرآن طريقًا مع أيّهما تكون؟ قال: أكون مع القرآن، أموت معه، وأحيا معه" .

عباد الله: تمسكوا بهذا الوحي تمسكًا صادقًا، تُرى آثاره في أعمالكم وأقوالكم ومعاملاتكم ، وفي كلّ شأنٍ من شؤونكم، وليعرض كلّ واحدٍ منكم نفسه على الكتاب والسنة، ولينظر أهو من أهل الطاعة أم من أهل التفريط والإضاعة ؟ أمن أهل الإتباع أم من أهل الابتداع؟

يقول الحسن البصريّ رحمه الله تعالى: "رحم الله عبدًا عرض نفسه وعمله على كتاب الله، فإن وافق كتاب الله حمد الله، وسأله الزيادة، وإن خالف كتاب الله أعتب نفسه، ورجع من قريب"

أيها المسلمون: إنّ الواجب علينا تعظيم الوحيين ، كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، تعظيمًا يمنعنا من مخالفتهما ، كل عبادات المتعبدين ، يجب أن تكون منطلقة من الشرع في أمره ونهيه، جارية على نهجه، موافقة لطريقته، وما سوى ذلك فمردود على صاحبه «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» .

إن غير سبيل المؤمنين نزعاتٌ وأهواءٌ، وضلالٌ عن الجادة، وشقٌ لعصا الطاعة، ومفارقةٌ للجماعة. فمن عَبَدَ الله بمستحسنات العقول؛ فقد قدح في كمال هذا الدين، وخالف ما جاء به المصطفى الأمين، وكأنه يستدرك على الشريعة نقائص . ﴿فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ﴾ .

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "كل عمل بلا اقتداء فإنه لا يزيد عامله من الله إلا بعدا، فإن الله تعالى إنما يعبد بأمره لا بالآراء ولا بالأهواء".

ألا وإن من أحق ما يربط برباط الشرع ، ويزم بزمام الدليل ، ويقتفى فيه أثر السلف الصالح ، في هذا الوقت خاصة ، الغيرة على دين الله وشرعه ، فقد تحمل الغيرة على دين الله، والرغبة في التبليغ والبيان، بعَضا ممن قصَر في باب العلم باعُهم، وقل فيه نظرهم واطلاعُهم ،على الخوض في نوازل عامة، وقضايا حاسمة وهامة، بلا علم ولا روية، فيخبطون خبط عشواء، ويأتون بما يضاد الشريعة الغراء، ويقولون باسم الإسلام ما الإسلام منه براء. وإن من البلاء تصدّر أقوام للإفتاء، أحدهم بيّن أهل العلم منكر أو غريب، ما له في مقام الفتوى حظ ولا نصيب .

إن الفصلَ في القضايا الكبار ، ومعالجةَ الشؤون المصيرية ، تكون من اختصاص علمائها وشأنِ كهولها وولاة أمرها, ممّن عركتهم الحياة ، وحنَكتهم التجارب. لكنّ ذلك توارى في واقعنا المعاصر، فأصبح الحديث عن تلك القضايا ومعالجةُ تلك الشؤون ، كلأً مُباحًا للشبّان والأحداث والعامة والجهلاء, فتجِد من يتقحَّم في مسائلَ لو عرَضت للفاروق لجمع لها أهلَ بدر.

الخطبة الثانية

إنّ شريعةَ الإسلام كما جاءت بالسّيف والرّمح ، فقد جاءت بالرّفق والنّصح، وكما جاءت بمنازلةِ العدوّ ، فقد جاءت بالصّبر على بلائه ، والكفِّ عن إيذائه، ليسَ لذاتِه ولا كرامة، بل لمصلحة الإسلام والمسلمين، في مواطنَ تُعمَل فيها الأدلة ، ويعرِفها الراسخون في العلم.

إنّ مراعاةَ حالِ المسلمين ، قوّةً وضعفًا ، قدرة وعجزًا ، ظهورًا وانحسارًا، معتبرةٌ في جرَيان الأحكام ، أو النّهيِ والإلزام ، والتّأثيم وعدمِه, ونحن بحاجةٍ إلى إعدادٍ وبناء ، وصبر ودعاء ، وعودة أقوى والتجاء، وأمام الشبابِ كثيرٌ من الواجبات والمسؤوليات في تسلسُل تقتضيه السّنَن الربانيّة وتوجهه النّصوص الشرعية.

إنّ وجودَ المثيرات ، واستفزازَ الظالمين ، وظلم الطغاة ، وجور السلطان ، ليست عذرًا لمخالفة الشريعة ، أو الخروج عن السنّة ، في معالجة الأحداث والقضايا. فإنّ الله تعالى قد تعبّدنا باتّباع شريعته ، لا باتّباع الهوى ، ولا بالاجتهاد المخالفِ للنصّ، ولو كان في ذلك غبنٌ في الظاهر ،أو ألمٌ في الباطِن.

أما وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان مستضعفاً ، أمره الله عزوجل في نحو مئة آية ، بأن يكف يده وأن يصبر ، فقال الله عز وجل له ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ﴾ وقال الله له ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ﴾ تول عن المواجهة ، بعد تبليغ الدعوة فما أنت بملوم ، من يلومك على ترك المواجهة وأنت ضعيف ، من يلومك من إلا من سفه نفسه ، أو ضعف عقله ، أو هاجت عاطفته وشهوته الغضبية ، ونفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآيات وهو الذي لايتعدى الشرع قيد أنمله ، صبر عليه الصلاة والسلام صبراً شديداً ، وفعل ما أمر الله به ، من تزكية أصحابه ، والدعوة إلى التوحيد ، وإقام الصلاة والصبر ، جاءه استفزاز من الكفار فلم يزعزعه ذلك ، يقتلون أصحابه وهو ينظر ، ويعذبونهم وهو ينظر ، لكنه لايملك لهم شيئا ، فكان يمر على ياسر ، وآل ياسر ، ويقول لهم صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة ، هذا الذي أملك لكم ، فقتل ياسر وقتلت سمية أمام عينيه ، واقتِيد أبو جندَل رضي الله عنه يَرسُف في قيوده، يسوقه مشرِك من أمامِ النبيّ صلى الله عليه وسلم ليرده إلى الكفار بعد صلح الحديبية ، وهو يصيح: أأُرَدّ أُفتَن؟ وأغير الخلق صلى الله عليه وسلم يرى ويصبِر؛ وترك أصحابه بلادهم ، وهاجروا واشتد العذاب والاستفزاز ، فما تزحزح قيد أنمله صلى الله عليه وسلم عض بالنواجذ على أمر الله، وقبض على الصبر كالقابض على الجمر ، أوذي الإمام أحمد وسجن ، فما أمر الناس بالخروج على الوالي ، ومثله شيخ الإسلام ابن تيمية ، فهذه جادة الأولين ، وهذا سبيل المؤمنين ، العواطف يسيرها الدليل ، فهل نحن أغير من رسول الله صلى الله عليه وسلم على دين الله ، قال ابن مسعود رضي الله عنه: "ستجدون قوماً يدعونكم إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم، فعليكم بالعلم ، وإياكم والتبدع والتنطع والتعمق ، وعليكم بالعتيق" أي القديم