تأملات في الأسفار

بسم الله الرحمن الرحيم

تأملات في الأسفار

عباد الله: إن السياحة في الأرض، والتأمل في عجائب الخلق، مما يزيد العبد معرفة بربه – عز وجل – ويقينا بأن لهذا الكون مدبرا، لا رب غيره، ولا معبود بحق سواه، المسافر إذا سافر يتأمل ثم يتدبر، وبعد ذلك كله يخشى الله سبحانه، وذلك حين يرى عجيب صنعه في الكون، وعظيم قدرته ﴿وَتَرَى الجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾ ولقد أنكر الله على من فقد هذا الإحساس ﴿وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾ .

إن السفر وقطع الفيافي والقفار، أمر ذو بال، يحتاج إليه كل إنسان، فما أكثر ما يسافر الناس لشئون حياتهم، مادية أو معنوية، ولقد سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم مرات ومرات إبان شبابه قبل البعثة، وبعد نبوته في حج وعمرة، وجهاد أو تجارة. وما سمي السفر سفرا إلا لأنه يسفر عن أخلاق الرجال، ومطالب الناس تختلف من السفر، فذاك طالب علم، وآخر سائح، وثالث طالب مال، بل إن من الناس من لا يجد رزقه إلا في السفر والذهاب والإياب، ففي السفر اكتساب المعيشة، حتى قالت العرب: البركات مع الحركات، ويقول أحدهم: صعود الآكام، وهبوط الغيطان، خير من القعود بين الحيطان. فما اكتسبت العلوم والآداب والأخلاق إلا بالسفر، وهذا جابر بن عبد الله الصحابي الجليل سافر مدة شهر في طلب حديث واحد، ويقول أحد السلف: لولا التغرب ما ارتقى در البحور إلى النحور.

عباد الله: أعظم ما في السفر معرفة عظمة الله وقدرته، مما يزيد في شكره وحمده، يقول الثعالبي: من فضائل السفر، أن صاحبه يرى من عجائب الأمصار، وبدائع الأقطار، ومحاسن الآثار، ما يزيده علما بقدرة الله تعالى، ويدعوه إلى تذكر نعمه أ.هـ

وكما أن للسفر محاسن إلا أنه قطعة من العذاب  كما عند (خ) عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: «السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه، فإذا قضى نهمته فليعجل إلى أهله» وأي عذاب أعظم من فقد الأحباب، وتقطيع الأكباد. ويقول الحجاج بن يوسف: لولا حلاوة الإياب لما عذبت أعدائي إلا بالسفر.

عباد الله: إن السفر في هذه الأزمان يختلف عن قرون مضت، فقد تيسرت أسبابه، وعبدت طرقه، قرب البعيد، وسهل العسير. ومع كل هذه الراحة، وكل هذه السرعة، وكل هذا التيسير، إلا أن الأخطار في الأسفار تزداد، بل هي أعظم منها في السابق؛ يركب الواحد منا طائرة يمتطي بها ثبج الهواء، معلق بين الأرض السماء و، لا هو قريب من السماء فيتعلق، ولا هو في الأرض فيتمسك، بل هو بين مساومة الموت ومداعبة الهلاك، مصيره معلق بأمر الله تعالى، وكل هذا يا عباد الله: يؤكد وجوب الاحتماء بالله، والتوكل عليه، وفعل الأسباب الداعية إلى رعايته، كالتأدب بآداب السفر، والبعد عن معصيته، وإن تعجب فعجب من مشركي زمان النبي صلى الله عليه وسلم من لجوءهم إلى الله في الضراء ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾ أما بعض مشركي زماننا فسراؤهم وضراؤهم على حد سواء!!

عباد الله: لو أن رجلا أمامه سفر طويل ينبغي أن يستعد له، لكنه ركب طيارته أو امتطى سيارته بدون عتاد أو عدة، لحكم الناس بضعف عقله، وقلة خبرته، وضياع أمره، فهكذا أنتم يا عباد الله منذ أن خرجتم من بطون أمهاتكم إلى أن تقوم قيامتكم بالموت، وأنتم في سفر، في (خ) أن النبي صلى الله عليه وسلم أمسك بمنكب عبد الله بن عمر ثم قال له : «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» فالمؤمن في هذه الدنيا لا يخلو من حالين: إما أن يكون غريبا، مقيما في بلد غربة، همه التزود للرجوع إلى وطنه، أو يكون مسافرا غير مقيم، ليله ونهاره يسير إلى بلد الإقامة، لا هم له إلا التزود بما ينفعه، لا ينافس أهل البلد في عزهم، ولا يجزع من الذل عندهم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي خلق الفلك والأنعام، أحمده سبحانه جعل النجوم زينة في السماء ليهتدي بها الأنام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك العلام، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .. أما بعد:

عباد الله : اشكروا ربكم على سابغ نعمه، واسألوه المزيد من جوده وكرمه، على ما يسر لكم في هذا الزمان من وسائل الأسفار، ونواقل الأخبار، وما هيأ للمسافر من أسباب الراحة في غالب الأقطار، حيث أوجد بحكمته وعظيم قدرته هذه المراكب الأرضية، وتلك الاتصالات الفضائية، التي أصبح الإنسان يسابق بها لحظات الليل والنهار، ويطلع على حديث الأخبار، ويتصل بأهله وذويه وكثير ممن يحتاج إليه من شتى الجهات آناء الليل وأطراف النهار، فتحقق بعض الموعود، إذ قرب البعيد، ونطق الحديد، وتقارب الزمان، وتجاورت الأوطان، وهذا كله والله من براهين التوحيد، الدالة على عظم حق الله على العبيد، وصدق ما جاءت به الرسل من ذي العرش المجيد، وكم في ذلك من الذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

عباد الله: كم في إيجاد هذه المصنوعات السائرة، وتلك الوسائل الباهرة، من آيات الإيمان المتكاثرة، وكم أسبغ الله بها على العباد من نعمه الباطنة والظاهرة، وكم في سوء استعمالها من أنواع المخاطرة في الدنيا والآخرة، فاشكروا الله تعالى على عظيم نعمته، واستخدموا هذه الأمور في طاعته، تفوزوا برضاه ومحبته، واجعلوها عونا لكم على تبليغ دينه، ونشر رسالته، مع تحصيل ما يسافر المرء من أجله، من شريف بغيته، ومباح حاجته، ولا تجعلوها مجالب لسخطه ونقمته، بأن تستخدموها في معاصيه، أو تتوسلوا بها إلى ما يغضبه ويؤذيه ﴿وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ﴾ فما أنتم بها عنه هاربين، ولا بواسطتها من ملكوته نافذين، ولا بغيره منه مستجيرين ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ فكم من مسافر في ظاهر الحال لحاجته، ثم اتضح أنه مسافر إلى منيته، فلا تسافروا إلا لمقصود شريف، وغرض مباح، واحذروا مواطن الفساد التي يمتهن فيها الدين ويستباح، وكم من مسافر للفجور والخمور، وقدمه توشك أن تزل في القبور، وكم من متعلق قلبه بمساكن الكفرة، ومخالطة الفجرة، فيا ويحه ما أخسره، فاتقوا الله عباد الله وأحسنوا القصد من هذه الأسفار، وسارعوا إلى الخير فيها تكتب لكم الآثار، خذوا من صالح الأعمال، قبل حضور الآجال، وانقطاع الأعمال، والوقوف بين يدي الكبير المتعال.  

عباد الله: لقد أمر المسافر أن يلتزم حال سفره آداب السفر، فإذا ركب راحلته قال الدعاء المعروف، وإذا نزل منزلا قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق.

والشيطان أحرص ما يكون على المسافر، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالرفقة في السفر، في (خ) أنه صلى الله عليه وسلم قال : «لو تعلمون من الوحدة ما أعلم، ما سار راكب بليل وحده " وقال أيضا : «الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب».

وروى أهل السنن أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم  فقال: يا رسول الله، إني أريد سفرا فأوصني، قال : «عليك بتقوى الله، والتكبير على كل شرف» وعند (د، س) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  ودع عبد الله بن عمر عند سفره فقال : «استودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك».

 عباد الله: متى كان السفر ملهيا عن طاعة الله، أو مشغلا عنها، فلا خير فيه، ولهذا نهي المسلم أن يسافر يوم الجمعة حتى لا تفوته الصلاة، وفي (خ) أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال لمالك بن الحويرث وصاحب له : «إذا كنتما في سفر فليؤذن أحدكما، وليؤمكما أقرؤكما لكتاب الله».

ونهي صلى الله عليه وسلم  المسافر أن يستصحب في سفره مزامير، روى (م) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال : «لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب ولا جرس» وفي رواية «الجرس من مزامير الشيطان» فما حال أناس جعلوا هجيراهم في حلهم وترحالهم سماع أصوات الخنا ومزامير الشيطان.