فضل العشر الأواخر من رمضان

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل العشر الأواخر من رمضان

عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى، وتزودوا من الأعمال الصالحة للأخرى، وتأهبوا ليوم العرض الأكبر على الله، وتذكروا حقه تعالى عليكم؛ فحقه أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر؛  اتقوا الله تعالى واشكروه، وسلوه سبحانه أن يحبب إليكم فعل الخيرات، وأن يعينكم على أداء ما شرع لكم من الطاعات الواجبات والمستحبات، وعلى ترك المحرمات والمشتبهات، لتكونوا من المؤمنين حقا، والمتقين صدقا، فالمقبلون على كتاب الله، المشتغلون بذكره، المطمئنون إليه، المتوكلون عليه، المحافظون على الصلوات في المساجد مع الجماعات، المنفقون ابتغاء وجه الله في سائر الأوقات، هم المحققون للإيمان، الفائزون عند الله تعالى بالمغفرة والرضوان، والرزق الكريم في أعلى درجات الجنان، وهم أشد على أنفسهم منهم على غيرهم، فينهونها عن أهوائها، ويمنعونها من ظلمها وأخطائها، فهم معها في جهاد، خوفا من رب العباد، وطمعا في عفوه ومغفرته، ورحمته وجوده، في الدنيا ويوم المعاد.

عباد الله: اغتنموا مواسم الخير، بعمارتها بما يقرب إلى ربكم، واحذروا من التفريط والإضاعة، فستندمون على تفريطكم وإضاعتكم, فمن لم يربح في هذا الشهر الكريم ففي أي وقت يربح، ومن لم ينب فيه إلى مولاه ففي أي وقت ينيب، ومن لم يزل متقاعدا عن الخيرات ففي أي وقت تحصل له الاستقامة والفلاح, فبادروا فرص هذا الشهر قبل فواتها، واحفظوا أنفسكم عما فيه شقاؤها وهلاكها, فإن شهركم الكريم قد أخذ بالنقص والاضمحلال، وشارفت لياليه وأيامه الثمينة على الزوال، فتداركوا ما بقي منه بالأعمال الصالحة, وبادروا بالتوبة من ذنوبكم لذي العظمة والإكرام، واعلموا أن الأعمال بالخواتيم فأحسنوا الختام, لقد مضى من هذا الشهر الكريم الثلثان، وبقي منه هذه العشر، فاغتنموها بالعزائم الصادقة وبذل المعروف والإحسان، وقوموا في دياجيها لربكم خاضعين، ولبره وخيراته راجين ومؤملين، ومن عذابه وعقابه مستجيرين مستعيذين، فإنه تعالى أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، وهو الذي يقول: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُم يَرْشُدُونَ﴾ وهو الذي ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيعرض على عباده الجود والكرم والغفران، يقول «من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له» .

مضى الثلثان في عجل وجاء ليبدأ الثلث *** وشهر الخير قد نادى أما يكفيكم العبث

ألا لله أقوام عن الــخيرات قد بحثوا *** وجدوا في عبادتهم فما ملوا وما نـكثوا

متى يغفر لمن لم يغفر له في هذا الشهر؟ متى يقبل من رد في ليلة القدر؟ متى يصلح من لم يصلح في هذا الشهر؟ تقول عائشة كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر: أحيا ليله، وأيقظ أهله، وجد، وشد مئزره" هذا وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

عباد الله: أحيوا هذه الليالي المباركة بعبادة ربكم, بالذكر وتلاوة القرآن بالتوبة الصادقة وطلب الغفران، والعتق من النيران, اسألوا ربكم الهداية والتوفيق والاستقامة على الدين والهدى ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾.

  عباد الله : إنكم في عشر رمضان الأخيرة، فيها الخيرات والأجور الكثيرة، فيها الفضائل المشهورة، والخصائص العظيمة. فمن خصائصها أن النبي  صلى الله عليه وسلم كان يجتهد بالعمل فيها أكثر من غيرها، دل على ذلك ما روه مسلم عن أم المؤمنين عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره.  وهذا شامل للاجتهاد في جميع أنواع العبادة. ولقد كان من هديه  صلى الله عليه وسلم أن يخلط أول ليالي رمضان وأوسطها، بالنوم والقيام، فإذا دخلت العشر الأواخر عكف على العبادة، وطوى فراشه، واعتزل نساءه، فإذا كانت هذه حاله صلى الله عليه وسلم وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فكيف بنا ونحن المذنبون المقصرون، الفقراء إلى الله، الراجون عفوه ورحمته وقبوله، الخائفون من غضبه وشديد عقابه، فكيف بالعصاة الذين تلوثوا بالذنوب، وتدنسوا بالآثام، بل كيف بالذين يبيتون على المحرمات والمنكرات، عن ربهم غافلون، وعلى المعصية مصرون، ومن مكر الله آمنون، وهل يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ؟ ليلهم ونهارهم في سبات وغفلة، يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام، لا بعبادة يتلذذون، ولا بذكر يشتغلون، ولا بالحق يتواصون.

الخطبة الثانية:

عباد الله : هاهو شهر رمضان المبارك، شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن، شهر الصدقة والجود والإحسان، يتهيأ للرحيل، تصرمت أيامه، وانقضت لياليه، وكأنها أضغاث أحلام وأطياف سراب، فيا من فرط فيما مضى من الشهر، تب إلى الله وارجع إليه مقبلا خائفاً، تائباً خاشعا ًوجِدَّ في طاعته فإن العمر قصير، والسفر طويل، والزاد قليل. ويا من أحسن فيما مضى داوم على طاعة الله تعالى وتزود من الصالحات. فلقد كثرت أسباب المغفرة في رمضان من صيام وصدقة وقيام، واستغفار وتوبة وتلاوة للقران، فيا عجبا من حال أقوام تمر عليهم تلك الليالي وهم في غفلة عنها، لا يقدرون لها قدرا، ولا يعرفون لها وزنا، فالمحروم حقا من فاتته المغفرة والرضوان في هذه الأيام. وقد صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر فقال : «إن جبريل أتاني فقال : من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله قل آمين، فقلت : آمين».

واعلموا عباد الله أن مما اختص الله تعالى به عشر رمضان الأخيرة أن جعل فيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «التمسوها في العشر الأواخر، فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي». ويستحب الدعاء فيها والإكثار من الاستغفار والطاعة قالت عائشة - رضي الله عنها : - يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها. قال : «قولي اللهم إنك عفو  تحب العفو فاعف عني».

ومن الأعمال التي تشرع في هذه العشر: الاعتكاف: ففي (خ م) عن عائشة رضي الله عنها «أن النبي  صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى» وإنما كان يعتكف  في هذه العشر التي يطلب فيها ليلة القدر، قطعا لأشغاله، وتفريغاً لباله، وخلوة لمناجاة ربه وذكره ودعائه. فلا يخالط الناس  ولا يشتغل بهم.

ومما يلاحظ أن هذه السنة قد رغب عنها كثير من الناس اليوم، وقل عملهم بها، وما ذاك إلا لقصور الهمم، والانشغال بملذات الحياة الدنيا وزخارفها، فإلى الله المشتكى.

يقول العلامة ابن القيم رحمه الله : اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده : أن شرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه : عكوف القلب على الله تعالى، والخلوة به، والانقطاع عن الاشتغال بالخلق، والاشتغال به وحده سبحانه، فيصير أنسه بالله بدلاً من أنسه بالخلق، فبعده بذلك – أي بالاعتكاف – لأنسه يوم الوحشة في القبور، حين لا أنيس له، ولا يفرح به سواه، فهذا مقصود الاعتكاف اأن النبي  صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالىلأعظم " أ. هـ

فاحرصوا عباد الله : على إحياء هذه السنة العظيمة، وإحياء قلوبكم بدوام الطاعة، وفرغوا من شهور السنة أياماً معدودة ؛ للتزود والتفكر، جعلنا الله ممن اقتدى بنبيه، وممن تقبل الله طاعاتهم، وتجاوز عن سيئاتهم وتقصيرهم وزلاتهم، وغفر لنا ولجميع المسلمين.

اللهم يا من خلق الإنسان وبناه, واللسان وأجراه يا من يستجيب لمن دعاه, هب لكل منا ما رجاه, وبلغه من خير الدارين مناه, يا أكرم الأكرمين.