الرد على مظاهرات الفقيه

بسم الله الرحمن الرحيم

الرد على مظاهرات الفقيه

الحمد لله الذي اهتدى بهديه المهتدون، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، أحمده سبحانه كتب العزة والفلاح والنصر للمؤمنين الصابرين، وجعل الذلة والخسار والهزيمة من نصيب المنافقين المفسدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي قال في كتابه المبين ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي جاهد في الله حق جهاده، وأخمد بسيف الحق عدوان المعتدين، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أئمة الهدى والدين.

أما بعد: عباد الله: لا شك أننا في زمان قل فيه العلم، وفشى فيه الجهل، وضعفت فيه التقوى، وغلب فيه الهوى، فأوثرت فيه – من الكثيرين – الدنيا على الأخرى، وهام ضعفاء الإيمان في أودية الضلال، وصار أهل الزيغ يكيدون لإفساد المجتمع في الحال والمآل، يمكرون بخفاء، وينافقون بجلاء ﴿أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القَوْلِ﴾ يفسدون في الأرض ويقولون: إنما نحن مصلحون، إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا، يريدون أن يجمعوا بين الدين، وشهوات المنحرفين المغرضين، وأنظمة الجاهلين ﴿أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ بل هم قوم يفتنون، ويسعون بكل فتنة ليفتنوا الناس عن دينهم، ويصدوهم عن سبيل ربهم بزخرف القول، وما لهم من الجاه والطول، وكونهم من بني جلدتهم، ويكلمونهم بألسنتهم، وهم في الحقيقة دعاة على أبواب جهنم، يدعون الناس إلى خبيث الأفكار والاعتقادات، ويزينون لهم قبيح المعاصي وعظيم المنكرات، وسيء القول وفاحش الكلمات، فهم في الحقيقة من فتن الدنيا وعظيم البلاء.

ألا وإن مرتزقة الفتن، لا يعرضون الباطل الخالص، ولا يرفضون أمام الناس الحق البين، وإنما يلبسون عليهم الحق بالباطل؛ تحت ستار دعوى الإصلاح، والتغيير والتجديد والتطوير.

 عباد الله: إن الفتن لها من شياطين الإنس مرتزقة، يحترفونها ويدعون الناس إليها، ويدخلونها على الناس إما من باب الشهوات أو من باب الشبهات، غايتها إفساد الدين، ليصبح المرء من الخاسرين ، فمن الناس من إذا وردت عليه الشبهة، أو دعي إلى شهوة، أخذته الغيرة على دينه، واسترخص في سبيل المحافظة عليه دنياه، والتجأ إلى مولاه، وأخذ بما شرع الله وقدره أسبابا للنجاة، فثبته الله على دينه، وزاده من هداه، وجعل له فرقانا عند اشتباه الأمور. ومن الناس من إذا عرضت له الشهوة أو أوردت عليه الشبهة، آثر دنياه على دينه، وزال صبره وشك في يقينه، فاقتحم الشهوات، وتذرع بالشبهات، وسار خلف كل ناعق، واتبع كل أفاك ومنافق، فصار من الغاوين، وانضم إلى حزب الشيطان الخاسرين، فهلك بنفسه وأهلك سواه، وهكذا كل داع إلى فتنة يكون مع من أضله ﴿كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ العَالَمِينَ﴾.

عباد الله: وإذا كانت الفتن تجلب على العبد خسارة الدنيا والآخرة؛ لأنها تفقده دينه، وتورثه غضب ربه، وإذا كان مرتزقة الفتن، وسمسرة الباطل بين أظهرنا، ومن بني جلدتنا، ويتكلمون بألستنا، فعلينا الجد والحذر في اتقاء الخطر، ولا حول ولا قوة إلا بالله قاهر المتجبرين، وعالم خائنة الخائنين، والذي وعد أنه مع الصادقين، ويحب الصابرين، ولا يضيع أجر المحسنين، ومن الأسباب التي جعلها الله عصمة من المحن، ونجاة من الفتن، لزوم طاعة الله تعالى، بفعل الفرائض والواجبات،  ومنها الرجوع إلى أهل العلم بالكتاب والسنة، ومن يلون الأمر عملا بقوله تعالى ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ ....

عباد الله: لقد أصبحنا – ولا حول ولا قوة إلا بالله – في فتن في الدين عظيمة، ومصائب متتابعة أليمة، فإن الفتن قد أطلت برؤوسها هذا الزمان، واشرأبت أعناق أهلها – قصمها الله – هذا الأوان قد ظهرت بعض وجوههم الكالحة المعبرة عما في قلوبهم من النفاق والبغض لأهل الإيمان، ألسنتهم أحلى من  العسل، ويقولون نفاقا من خير القول، ويخالفون أهل الإسلام في الفعل والحال، يخدعون العوام، ويضللون الطغام، بما يثيرون من الدعايات المزخرفة، والأفكار المضللة، قد تشبعوا بمسالك الكفار، وحذو حذو الضلال، ولهم في كل يوم دسيسة، وفي كل ليلة مكيدة، يشيعونها بين الناس، ويلبسونها عليهم للتشكيك والوسواس. فالنجاة النجاة عباد الله: بأنفسكم وأهليكم ومجتمعكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وحذار حذار أن تخدعوا بأقوال دعاة الفتن، وقد علمتم أنهم يدعونكم إلى النار، ولا يغرنكم بريق ألفاظهم، وبهارج أقوالهم، ومعسول كتاباتهم وكناياتهم، فإنها في الحقيقة هدم للدين، وتضليل للمسلمين.

الخطبة الثانية:

عباد الله: إن السمع والطاعة لولاة أمر المسلمين أصل من أصول العقيدة السلفية، قل أن يخلو كتاب فيها من تقريره وشرحه وبيانه، وما ذاك إلا لبالغ أهميته وعظيم شأنه، إذ بالسمع والطاعة لهم تنتظم مصالح الدين والدنيا معاً، وبالافتيات عليهم فساد الدين والدنيا.  وقد علم بالضرورة من دين الإسلام: أنه لا دين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمام، ولا إمام إلا بسمع وطاعة. يقول الحسن البصري في الأمراء: هم يلون من أمورنا خمسا: الجمعة، والجماعة، والعيد، والثغور، والحدود. والله لا يستقيم الدين إلا بهم، وإن جاروا وظلموا، والله لما يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون، مع أن طاعتهم – والله – لغبطة وأن فرقتهم لكفر " أ.هـ  وذكر السلطان عند أبي العالية فقال: ما يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون .

عباد الله: لقد كان السلف الصالح يولون هذا الأمر اهتماما خاصا، لا سيما عند ظهور بوادر الفتنة، نظرا لما يترتب على الجهل به أو إغفاله من الفساد العريض في العباد والبلاد، والعدول عن سبيل الهدى والرشاد.

واهتمام السلف بهذا الأمر، تحمله صور كثيرة نقلت إلينا، أقتصر على صور منها:

الصورة الأولى: التحذير من الخروج عليهم: مثال ذلك ما قام به الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة والجماعة، رحمه الله، حيث كان مثالاً للسنة في معاملة الولاة.

الصورة الثانية: التأكيد على الدعاء لهم، مثال ذلك ما جاء في كتاب السنة للبربهاري رحمه الله، حيث يقول: إذا رأيت الرجل يدعو على السلطان: فاعلم أنه صاحب هوى، وإذا سمعت الرجل يدعو للسلطان بالصلاح، فاعلم أنه صاحب سنة – إن شاء الله -. ويقول الفضيل بن عياض: لو كان لي دعوة ما جعلتها إلا في السلطان، فأمرنا أن ندعو لهم بالصلاح، ولم نؤمر أن ندعو عليهم – وإن جاروا وظلموا -؛ لأن جورهم وظلمهم على أنفسهم، وصلاحهم لأنفسهم وللمسلمين .

الصورة الثالثة: التماس العذر لهم:، كان العلماء يقولون: إذا استقامت لكم أمور السلطان، فأكثروا حمد الله تعالى وشكره، وإن جاءكم منه ما تكرهون، وجهوه إلى ما تستوجبونه بذنوبكم، وتستحقونه بآثامكم، وأقيموا عذر السلطان؛ لانتشار الأمور عليه، وكثرة ما يكابده من ضبط جوانب المملكة، واستئلاف الأعداء عليه، وإرضاء الأولياء، وقلة الناصح، وكثرة التدليس والطمع ".

فهذه الصور من أروع الصور التي نقلها الناقلون، تبين مدى اهتمام السلف بهذا الباب، وتشرح صراحة التطبيق العملي لمذهب أهل السنة والجماعة فيه، ومما يجدر العلم به، والتأكيد عليه أن قاعدة السلف في هذا الباب، زيادة الاعتناء به كلما ازدادت حاجة الأمة إليه،؛ سداً لباب الفتن، وإيصادا لطريق الخروج على الولاة، الذي هو أصل فساد الدنيا والدين.