الغفلة المهلكة

بسم الله الرحمن الرحيم

الغفلة المهلكة

الحمد لله:

عباد الله: الذي يتأمل أحوال الناس في هذا الزمن يرى قول الله تعالى: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ﴾. مطابقا تماماً مع واقع كثير منهم، إعراض عن منهج الله، وغفلة عن الآخرة وعن ما خلقوا من أجله، وكأنهم لم يخلقوا للعبادة، وإنما خلقوا للدنيا وشهواتها، فإنهم إن فكروا فللدنيا، وإن أحبوا فللدنيا، وإن عملوا فللدنيا، فيها يتخاصمون، ومن أجلها يتقاتلون، وبسببها يتهاونون أو يتركون كثيراً من أوامر ربهم، حتى إن بعضهم قد يترك الصلاة أو يؤخرها عن وقتها من أجل اجتماع عمل أو مباراة أو موعد ونحو ذلك! كل شيء في حياتهم له مكان ! للوظيفة مكان، للرياضة مكان، للتجارة مكان للرحلات مكان، للأفلام والمسلسلات وللأغاني مكان، للنوم مكان، للأكل والشرب مكان، كل شيء له مكان، إلا أوامر الدين والقرآن ، تجد الواحد منهم ما أعقله وأذكاه في أمور دنياه، لكن هذا العاقل المسكين لم يستفد من عقله فيما ينفعه في أُخراه، ولم يقده عقله إلى أبسط أمر وهو طريق الهداية والاستقامة على دين الله الذي فيه سعادته في الدنيا والآخرة، وهذا والله غاية الحرمان ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ ! من يرى أحوالهم وما هم عليه من شدة جرأتهم على ارتكاب المعاصي وتهاونهم بها يقول: إن هؤلاء إما أنهم لم يصدقوا بالنار، أو أن النار قد خلقت لغيرهم، نسوا الحساب والعقاب، وتعاموا عما أمامهم من أهوال وصعاب ﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ ! انشغلوا براحة أبدانهم وسعادتها في الدنيا الفانية وأهملوا سعادتها وراحتها في الأخرى الباقية.

أوقاتهم ضائعة بلا فائدة، بل إن أغلبها قد تضيع في المحرمات وإضاعة الواجبات، يبحثون بزعمهم عن الراحة والسعادة، وهم بعملهم هذا لن يجدوا إلا الشقاء والتعاسة، شعروا بذلك أم لم يشعروا قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى﴾ ولقد مات عند الكثير من هؤلاء الشعور بالذنب، ومات عندهم الشعور بالتقصير، حتى ظن الكثير منهم أنه على خير عظيم، بل ربما لم يرد على خاطره أنه مقصر في أمور دينه، فبمجرد قيامه بأصول الدين ومحافظته على الصلوات ظن في نفسه خيراً عظيماً، وأنه بذلك قد حاز الإسلام كله، وأن الجنة تنتظره في نهاية المطاف، ونسي هذا المسكين مئات بل آلاف الذنوب والمعاصي التي يرتكبها صباحاً ومساءً، من غيبة أو بهتان، أو نظرة إلى الحرام، أو شرب لحرام، أو حلق لحية أو إسبال ثوب أو غير ذلك من المعاصي والمخالفات التي يستهين بها، ولا يلقي لها بالاً، ويظن أنها لا تضره شيئاً، وهي التي قد تكون سبباً لهلاكه وخسارته في الدنيا والآخرة وهو لا يشعر، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إياكم ومحقرات الذنوب فإنها إذا اجتمعت على العبد أهلكته» ، ناهيك عن ما يرتكبه البعض من كبائر وموبقات، من ربا وزنا ولواط ورشوة وعقوق ونحو ذلك..وإن المرء ليعجب والله أشد العجب! ألم يمل أولئك هذه الحياة؟ ألم يسألوا أنفسهم؟ ثم ماذا؟ ماذا بعد كل هذه الشهوات والملذات ؟ ماذا بعد هذا اللهو والعبث؟ ماذا بعد هذه الحياة المملوءة بالمعاصي والمخالفات؟ هل غفل أولئك عما وراء ذلك.. هل غفلوا عن الموت والحساب، والقبر والصراط، والنار والعذاب، أهوال وأهوال وأمور تشيب منها مفارق الولدان، ذهبت اللذات وبقيت التبعات، وانقضت الشهوات وأورثت الحسرات، متاع قليل ثم عذاب أليم وصراخ وعويل في دركات الجحيم، فهل من عاقل يعتبر ويتدبر ويعمل لما خلق له ويستعد لما أمامه.

إن هؤلاء المساكين الغافلين السادرين في غيّهم قد أغلقت الحضارات الحديثة أعينهم وألهتهم الحياة الدنيا عن حقيقة مآلهم، ولكنهم سوف يندمون أشد الندم إذا استمروا في غيهم ولهوهم وعنادهم ولم يفيقوا من غفلتهم وسباتهم ويتوبوا إلى ربهم ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ ألم يأن لكل مسلم أن يعلم حقيقة الحياة والغاية التي من أجلها خلق ؟

أمـا والله لو علم الأنام  *** لمـا خلقوا لما غفلوا وناموا

لقد خلقوا لما لو أبصرته  *** عيون قلوبهم تاهوا وهاموا

ممات ثم قـبر ثم حشـر *** وتوبيــخ وأهوال عظام

الخطبة الثانية:

الحمد الله:

عبد الله: قف قليلا وراجع  نفسك وحاسبها، وانظر كيف أنت في هذه الحياة، هل أنت من أولئك اللاهين الغافلين؟  تسير وفق رغباتك وشهواتك، حتى ولو كان في ذلك شقاؤك وهلاكك، أم أنت تسير في الطريق الصحيح الموصل إلى رضوان الله وجنته؟ انظر في أي الطريقين تسير، فإن الأمر والله خطير، وإنه فصل وليس بالهزل، ولا أظن أن عندك شيء أغلى من نفسك، فاحرص على نجاتها وفكاكها من النار، ومن غضب الجبار، انظر كيف أنت مع أوامر الله وأوامر رسوله صلى الله عليه وسلم، هل عملت بهذه الأوامر وطبقتها في واقع حياتك، أم أهملتها وتجاهلتها، وطبقت ما يناسبك ويوافق رغباتك وشهواتك.

فيا من تعصي الله إلى متى هذه الغفلة؟ إلى متى هذا الإعراض عن الله؟ ألم يأن لك أن تصحو من غفلتك؟ ألم يأن لهذا القلب القاسي أن يلين ويخشع لرب العالمين ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ﴾ أعلنها توبةً صادقةً، وكن حقاً عبداً لله تعالى، وهل يكون الإنسان عبداً حقيقياً لله، وهو متمرد على مولاه أينما يوجهه لا يأتي بخير؟! ألم يأن لك أن تكون من التائبين؟ هل أنت أقل منهم؟ ألا تريد ما يريدون؟ هل هم في حاجة إلى ما عند الله من الثواب، وأنت في غنى عنه؟ هل هم يخافون الله وأنت قوي لا تخافه؟ ألا تريد الجنة؟ تخيّل نفسك وأنت في النعيم المقيم في جنات عدن، بين أنهار من ماء، وأنهار من لبن، وأنهار من خمر، وأنهار من عسل مصفى، وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون، ولك فيها ما تشتهيه نفسك وتلذ عينك، تخيّل كل هذا النعيم في جنة عرضها السماوات والأرض، وتخيّل في مقابل ذلك النار وزقومها، وحرها الشديد، وقعرها البعيد، وعذاب أهلها الدائم الذي لا ينقطع ﴿كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ﴾ تخيّل كل ذلك لعله أن يكون عوناً لك على التوبة والإنابة والرجوع إلى الله، ألست تقرأ في صلاتك كل يوم ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ﴾؟ فما دمت تريد الصراط المستقيم فلماذا لا تسلكه وتسير فيه!!

فيا أسفاً لك إذا جاءك الموت ولم تتب، ويا حسرةً عليك إذا دعيت إلى التوبة ولم تجب، فكن  عاقلأ فطناً، واعمل لما أنت مقدم عليه، فإن أمامك الموت بسكراته، والقبر بظلماته، والحشر بشدائده وأهواله، وهذه الأهوال ستواجهها حتماً وحقاً، وستقف بين يدي الله، وستسأل عن أعمالك كلها، صغيرها وكبيرها فأعد للسؤال جوابأ ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ وتذكر أولئك الذين خرجوا من الدنيا، ووالله لتخرجن أنت منها كما خرجوا، لكنك الآن في دار العمل، وتستطيع التوبة والعمل، أنقذ نفسك من النار، قبل أن تقول ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ﴾ فلا تجاب حينها لذلك، فإني والله لك من الناصحين وعليك من المشفقين.