الطاعنون في الفضيلة

بسم الله الرحمن الرحيم

الطاعنون في الفضيلة

أيّها المسلمون: لقد شرَّفكم الله جل وعلا بأعظمِ دين، وأكرمكم بأفضلِ رسول ، وأنزل عليكم خيرَ كِتاب، ولقد قامت هذه البلاد على دعوة الحق والتوحيد، وتحكيم كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والسير على طريقة السلف الصالح. فاشكروا الله على ما حباكم وأعطاكم. وإنّكم أغلى وأعلى ، وأعزُّ وأكرمُ ، من أن تهبِطوا من سماءِ عليائكم إلى الشك في دينكم ، أو الريب في صحة مساركم ، بدعوة زائغ ، أو شبهة حائر .

معاشرَ المسلمين: مرجعيّة أهلِ الإسلام، كتابُ الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهذه المرجعيّة لا تتمثّل في النصوص فحسب، بل في كيفيّة إعمالِ هذه النصوصِ وشَرحها والاجتهادِ في دلالاتها والاستنباطِ منها، وهذه هي وظيفةُ المختصّين من أهل العلم بشرع الله ، وأهلُ الإيمان أهلُ تصديق ورضاً بالله وبشرعِه وانقيادٍ له وحَمل النّفوس على ذلك ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـٰلاً مُّبِيناً

أيّها المسلمون: إنّ ممّا يبعثُ على الحُرقة والأسَى أن يرى المسلم في مجتمَعه ،صُوَرًا مُمرضة وأحولاً مُرمِضةً ،من المنكرات والمحرّمات، فلا يجد لذلك في نفسِه مسًّا ولا حسًّا ، ولا توجُّعا ولا التياعًا، فأيُّ ركنٍ قد وهى؟! وأيّ نورٍ قداختفى؟! ولقد أمرنا الله تعالى بأن نسلك طريق الصلاح والإصلاح ، ونبتعد عن طريق الفساد والإفساد. وأمرنا أن نكون من المصلحين تبعاً لمنهج الأنبياء والمرسلين ، فشعيب عليه السلام قال لقومه ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ﴾  ونهى الله عن الفساد فقال ﴿وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ

وإنّ نهجَ الإصلاح يقتضي الالتزام بالثوابت واحترامَها ، فهذا سبيلُ الفلاح، وهو سبيل سلامةِ المنهج والاستقرار الفكريّ. بأهل العلم تبرأ الذمّةُ وتُنصح الأمّة، ويقطَع الطريق على من يريدُ تجاوزَ أمور الشرع سواءً في جانب الإفراط أو جانب التفريط. بالمرجعيّة العلميّة وحفظِ حقِّها ومقامِها تتَّضح الأحكام وتستقرّ الأوضاعُ وتطمئنّ النفوس ويُعرَف الشرعُ ، وتحفَظ الحقوق .

أيها المسلمون: إن من عجائب هذا الزمان، محاولة المفسد أن يلبس ثوب المصلح ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ بل والأعجب من هذا أن يتهم المفسد المصلح أنه يريد الإفساد ، وهذه تهمة قديمة ، ترجع إلى إمام المفسدين فرعون الذي قال عن موسى عليه السلام ﴿إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الفَسَادَ﴾ الطاعنون في الفضيلة يقلبون الحقائق ، ويخالفون أولويات الإصلاح ، حين يتفق العقلاء على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو سفينة النجاة، فيه تحيا الفضيلة ، وتحاصر الرذيلة، ينتكس المنافقون في فهمهم وتراهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ﴿ٱلْمُنَـٰفِقُونَ وَٱلْمُنَـٰفِقَاتُ بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِٱلْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمَعْرُوفِ

عباد الله : إن مما أرهق المسلمين وأساء إلى الإسلام ، الانحراف مع دعوى التطوير في ثوابت الدين، وركائز الإسلام في العقيدة والقيم، مما ينتهي بالأمة لو استجابت لها ، إلى الانسلاخ من العقيدة ، والتحلل من الأخلاق ، والذوبان في الثقافات الغربية . يقولون: يتكلّم الإنسانُ بما شاء متى شاء وإذا شاء فيما شاء ، بلا وازِعٍ إيمانيّ ولا رادِع سلطانيّ، كلٌّ يعبِّر عن رأيِه، وكلٌّ يُخبر عمّا في نفسِه، سواء كان ذلك موافِقاً لشرع الله، أو كان مناقِضاً لملّة الإسلام، أو كانَ هذا الرّأي رأيَ ملحِدٍ وزنديق لا يؤمن بالله واليوم الآخر، هكذا يزعُم دعاةُ الحرّيّة، ويأبى الله على المسلمين ذلك. ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ ٱللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ

يتَّخذون مِن الأحداثِ والأزماتِ ميدانًا للمزايدات ، وحَربًا على المواقفِ ، لاهمَّ لكثيرٍ منهم إلاّ الحديثُ عن الجوانبِ المظلمة من الحياةِ ، والبائسِ من الأحوال، يتحدَّثون بعواطفِهم أكثرَ مِن عقولهم، تضخيمٌ لآراءِ المعارضين الغاضبين، وتهميش لنداءات الصادقين .

إن عددًا من مرضى القلوب ممن يحملون ألسنة حدادا ، وأقلامًا شداداً ، وجرأة على الدين ، قد اتخذوا من الأحداث الآثمة التي تمرّ بها بلادنا ذريعة وسلَّمًا لنيل مآربهم ، وتحصيل مقاصدهم ، وتصفية حساباتهم، فباسم مقاومة الإرهاب سبّوا الدين ، وتكلّموا في الثوابت ، واجترؤوا على العقيدة ، ونالوا من علماء الإسلام . طعنوا في فهم السلف للنصوص، تكلموا في عقيدة الولاء والبراء، ولم ينسوا دعوة شيخ الإسلام ابن تيمية ، ولا مجددها محمد بن عبدالوهاب، عرجوا على مناهج التعليم، وصبوا جام غضبهم على هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لم تسلم منهم حِلق تحفيظ القرآن ، ولا الجمعيات الخيرية، ودندنوا حول المرأة وحجابها ، حاربوا حشمتها وعفافها ، ووجهوا سهامهم اليوم نحو المحاكم وقضاتها ، والمحصّلَة حرب الإسلام باسم حربِ الإرهاب، فإذا أنكِر على أحدهم أو خوِّف بالله أقسم الأيمان المغلظة أنه ما قصد إلا الإصلاح ولا أراد إلا الحسنى ﴿وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ فاللهم طهب قلوبنا من النفاق وأعمالنا من الرياء ........

الخطبة الثانية :

أيها المسلمون: ليست حركة النفاق قصةً ماضية ، ولكنها حقيقةٌ باقية، اختلفت وسائلها ، وتعددت مسمياتها ، واتحدت أهدافها وسماتها، قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: النفاق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الزندقة فينا اليوم.

عباد الله : من أوصاف المنافقين، أن أسماعهم قد أثقلها الوقر ، فهي لا تسمع منادي الإيمان، وعيونهم عليها غشاوة ، فهي لا تبصر الحقائق، وألسنتهم بها خرسٌ عن الحق فهم لا ينطقون، ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ

لقد حكم القرآن بكذب ألسنتهم ومرض قلوبهم ﴿وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ لَكَـٰذِبُونَ﴾ والمنافقون مع كذبهم يخلفون الميعاد، ويخونون الأمانة، ويغدرون حين يعاهدون، ويفجرون حين يخاصمون، بهذا صح الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي رواية مسلم «وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم»

أيها المسلمون، تاريخ المنافقين حافل بالسخرية بالدين ، والاستهزاء واللمز بالمتدينين، وتلك طامة كبرى ، كشف فيها القرآن دخيلة المنافقين ، وحكم بكفرهم عليها رب العالمين ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِٱللَّهِ وَءايَـٰتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءونَ (65) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَـٰنِكُمْ﴾ .

ولاء المنافقين للكافرين ، ولو عاشوا بين ظهراني المسلمين، وقلوبهم مع أعداء الدين ، وإن كانوا بأجسامهم في عداد الموحدين ، يخشون الدوائر فيسارعون للولاء والمودة للكافرين ، ويسيئون الظن بأمتهم فيرتمون في أحضان الضالين ﴿فَتَرَى ٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَـٰرِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى ٱللَّهُ أَن يَأْتِىَ بِٱلْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَا أَسَرُّواْ فِى أَنفُسِهِمْ نَـٰدِمِينَ

المنافقون هم الأعداء الحقيقيون ، وهم الذين خططوا لأعظم نكبات المسلمين، هم رسل الفساد ، وعقارب النفاق ﴿هُمُ ٱلْعَدُوُّ فَٱحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ ٱللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ

يكرهون التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم باطناً ، وإن زعموا  الإيمان بهما ظاهراً ، ويميلون إلى حكم الطاغوت وإن لم يقولوا به جهاراً ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَا أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ رَأَيْتَ ٱلْمُنَـٰفِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً﴾ .

فاحذَروا الانخداعَ بمقالات الجاهلين ،أو الانسياقَ وراءَ أكاذيبِ الحاقدين ،  وما يدور على ألسنةِ المغرضين، وخذوا على أيدي سُفهائكم قبلَ استِفحال الداءِ ، وإعوازِ الدّواء.

ولا تكن ـ يا عبد الله ـ ممن إذا سمع خبراً طار به كلَّ مطار، وسعى إلى نشره في الأقطار، من غير أن يتثبَّت في صحته، أو ينظر في جدوى نشره، أفَّاكٍ أثيم، همَّاز مشاءٍ بنميم، لا تردعه تقوى، ولا يردّه دينٌ، ولا تحجزه مروءَة، إذا حضَر مجلسًا أطلق الأكاذيب، وإذا دخل موقعًا أتى بالأعاجيب .