الحث على طلب العلم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحث على طلب العلم

أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، واعلموا أنكم ملاقوه وإليه الرجعى، حاسبوا أنفسكم، وزنوا أعمالكم، وتزينوا للعرض الأكبر على الله

عباد الله، يقول الله عز وجل:  ﴿وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ .

ولقد رفع الله تعالى شأن العلم وأهله، وبين مكانتهم، ورفع منزلتهم، فقال سبحانه وتعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ ولم يأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالاستزادة من شيء إلا من العلم ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾ .

فالعلم شرف لا قدر له، ولا يجهل قدر العلم وفضله إلا الجاهلون. قال عبد الملك بن مروان لبنيه: "يا بَنِيَّ! تعلموا العلم، فإن كنتم سادة فُقتم، وإن كنتم وسطاً سدتم، وإن كنتم سوقة عشتم".

عباد الله: إن طلب العلم خير ما ضُيعت فيه الأعمار، وأُنفقت فيه الساعات

ولقد جاءت نصوص الكتاب والسنة منوهة بفضل العلم وأهله، والحث على تعلمه وكسبه فعند أبي داود عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ورَّثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر»

عباد الله، بالعلم تُبنى الأمجاد، وتشيد الحضارات، وتسود الشعوب، بل لا يستطيع المسلم أن يحقق العبودية الخالصة لله تعالى على وفق شرعه، أو يقدم لمجتمعه خيراً، أو لأمته عزاً ومجداً ونصراً إلا بالعلم . وما فشا الجهل في أمة من الأمم إلا قَوَّض أركانها، وصدَّع بنيانها، وأوقعها في الرذائل والمتاهات المهلكة.

ومن سلك طريقاً يظنه الطريق الموصل إلى الله تعالى بدون علم، فقد سلك عسيراً ، ورام مستحيلاً، فلا طريق إلى معرفة الله سبحانه وتعالى، والوصول إلى رضوانه إلا بالعلم النافع الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، فهو الدليل عليه .

والعلم الشرعي: هو العلم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، والقاعدة الكبرى التي تبنى عليها سائر العلوم، وحملة العلم الشرعي هم ورثة الأنبياء ، وهم الأئمة الثقاة، والأعلام الهداة.

العلماء بالله تعالى وبشرعه هم أهل خشيته ، فمن كان بالله أعرف كان منه أخوف، قال الحسن البصري رحمه الله: "العالم من خشي الرحمن بالغيب، ورغب فيما رغّب الله فيه، وزهد فيما سَخَطُ الله فيه"، ثم تلا ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ﴾ .

روى عبد الله بن وهْب عن سفيان: أن الخضر قال لموسى عليهما السلام: يا ابن عمران! تعلم العلم لتعمل به، ولا تتعلمه لتحدث به، فيكون عليك بورُه، ولغيرك نوره.

وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: "أخوف ما أخاف إذا وقفت بين يدي الله أن يقول: قد علمت فماذا عملت" .فثمرة العلم أن يعمل به، لأن العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل. وخير العلم ما نفع، وخير القول ما ردع، ومن تمام العلم استعماله، ومن تمام العمل استقلاله، فمن استعمل علمه لم يخلُ من رشاد، ومن استقل عمله لم يقصر عن مراد.

والعلماء هم أسلمُ الناسِ فِكرًا وأمكنُهم نظرًا، لا يؤثِرون على الحقِّ أحدًا، ولا يجِدون من دونه ملتحدًا، وهم ضميرُ الأمّة وغيظُ عدوِّها وحُرَّاسُ عقيدتها والخير فيها، نظرُهُم عميق ، ورأيهم وثيق ، وفِكرُهم دقيق، به علامةُ التّسديد والتوفيق، علَّمتهم الوقائعُ والتجارب مكنونَ المآلات والعواقب، فخُذوا مِن علمهم، واصدُروا عن رأيهم، وإياكم وكلَّ قولٍ شاذّ ، وفكرٍ نادّ ، ورأيٍ ذي إفناد ، وانعزاليَّة وانفراد، وإنما يأكلُ الذئب من الغنم القاصِية.

الخطبة الثانية:

أيها الناس: اتقوا الله تعالى وتعلموا من العلم ما تعرفون به ربكم، ويستقيم به دينكم، وتستنير به قلوبكم، وتصلح به دنياكم وآخرتكم؛ لأن العلم نور يخرج من الظلمات، وتزول به الشبهات، وتستقيم به الأعمال، فإن العمل بلا علم ضلال ووبال.

عباد الله : المكلف محتاج للعلم بمقاصد الشريعة؛ ليكون علمه وقصده منه موافقًا لقصد الشارع، فالشريعة وضعت لمصالح العباد، والمطلوب من المكلَّف أن يجري على ذلك في أفعاله كلها، ولا يمكن للناس معرفة ذلك إلا عن طريق العلماء بالنصوص الشرعية ، ومتى ردّ فهم جلب المصالح ودرء المفاسد لغير علماء الشرع ، وفقهاء أحكامه ، فإنه يُخشى من فهم يهدم أكثر مما يبني، ويُفسد أكثر مما يصلح، وكم من قول أو فعل يصدر بدون نظر للعواقب، فيكون غير منضبط بالشرع، ولا منسجم مع المقاصد الشرعية، فيُسْتبْدل الأمن حينئذ بالخوف، وإراقة الدماء، وانطلاق أيدي السفهاء بالفساد في الأرض.

إيها المسلمون : لقد كان من هدي السلف رحمهم الله، أنهم يتكلمون فيما يعلمون، ويسكتون عما لا يعلمون، قال الإمام مالك رحمه الله: "ينبغي للمرء أن لا يتكلم إلا فيما أحاط به خبرًا، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو إمام المسلمين وسيد العالمين يُسأل في الشيء، فما يجيب حتى يأتيه الوحي من السماء" .

عباد الله : واجب الناس أن يتجهوا للعلماء الربانيين، الذين تدور على فتياهم الأنام ، لاختصاصهم باستنباط الأحكام، ودرايتهم بضبط قواعد الحلال والحرام، يقول ربنا جل وعلا ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ .

وطاعة العلماء ليست مقصودة لذاتها، وإنما لما قام فيهم من العلم بالله، وما يفهمونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

إن الدفاع عن هذه الشريعة، وردِّ حيل المحتالين ، وشبه المفترين، وتعريةَ طرق المفسدين، والقيام بواجب الإعذار والإنذار، والحسبة والإنكار، والتبليغ والبيان، والإيضاح وعدم الكتمان، واجبٌ معظَّم وفرض محتَّم ، يتأكّد في حق العلماء والفقهاء، وأهل الحل والعقد والقضاء والإفتاء، القادة الأعلام، زوامل الإسلام، وأئمة الأنام، العارفين بالحلال والحرام، المخصوصين باستنباط الأحكام، الذين بنورهم يهتدي المهتدون، وعلى منهاجهم يسلك الموفَّقون.