ميزان الحياة الطيبة

بسم الله الرحمن الرحيم

ميزان الحياة الطيبة

الحمد لله العفو الغفور، الرؤوف الشكور، الذي وفق من شاء من عباده لمحاسن الأمور، وما فيه عظيم الأجور، فعملوا له أعمالا صالحة يرجون تجارة لن تبور، ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له على رغم أنف كل مشرك كفور، وملحد ومنافق مغرور، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ومصطفاه الذي بعثه الله بين يدي الساعة داعيا إلى هداه، فبشر بكل خير، وأنذر من كل شر، صلى الله عليه وسلم إلى أخر الدهر... أما بعد:

عباد الله: اتقوا الله في جميع أموركم، وراقبوه واخشوه في سائر أحوالكم، واعملوا له أعمالا صالحة تطيب بها حياتكم، ويحسن بها مآلكم، فإن الله تعالى قد وعد بذلك من كان كذلك، فوعد ووعده الحق، وقال وقوله الصدق ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾، وقال ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَئَابٍ﴾ .

عباد الله: يخطئ كثير من الناس ممن قل علمه، وقصر فهمه، إذ يظنون أن طيب الحياة وسعادة الأبد، يتحققان لمن كثر ماله، وتيسرت له متع الدنيا الفانية، من شهي المآكل، وبهي الملابس، وعامر القصور، وفاره المراكب، وكثرة الأموال، والأتباع الذين يحفون بالشخص يعظمونه ويخدمونه، ولو خلى قلبه من الإيمان، أو ارتكب ما ارتكب من أنواع الكفر والفسوق والعصيان.

والحقيقة يا عباد الله: أن هذا الظن لا يصدر إلا عن معرض عن تدبر القرآن، ولم يكن على علم بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ، في هذا الشأن من بيان، وإلا فإن من تدبر آيات القرآن، واطلع على السنة، وفهمهما على نحو فهم السلف الصالح من هذه الأمة، يتبين له أن التمتع بطيب المشتهيات، والتوسعَ في أمور الحياة أمر مشترك بين المسلمين والكفار، والأبرار والفجار ﴿كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً﴾ .

وقد ذكر الله في غير موضع من كتابه أنه يعطي الدنيا من يشاء من أوليائه المؤمنين، ومن أعدائه المكذبين، وأن من حكمة ذلك ابتلاء الطرفين، وإكرام المؤمنين الشاكرين، واستدراج المكذبين الجاحدين، وأن ذلك كله واقع بمشيئته ومقتضى حكمته، الدائرة بين الفضل على الشاكرين، والعدل في الجاحدين ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ ، ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً﴾ .

عباد الله: إن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ولا يعطي الدين إلا من يحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه  بل قد سمى الله تعالى المال الخالي عن صالح الأعمال، فتنةَ لصاحبه وعذابا، ونهى نبيه وأتباعه المؤمنين عن مد النظر إليه إعجابا فقال سبحانه ﴿فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ ، وقال تعالى ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾  وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله تعالى مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء» .

عباد الله: جاء عن نبيكم صلى الله عليه وسلم أن المكثرين من المال هم الأقلون يوم القيامة إلا من بذلها في عباد الله عن يمينه وشماله ومن خلفه، ابتغاء وجه الله، ففي (خ م) عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال : «إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال بالمال هكذا وهكذا وهكذا وقليل ما هم» وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أن من خطر الغنى أنه يعوق أهله عن دخول الجنة، أو السبق إليها، إن كان من أهلها، ففي (خ م) عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم  قال : «وقفت على باب الجنة فكان عامة من دخلها المساكين، وأصحاب الجًدِّ  - يعنى الغنى – محبوسون، غير أن أهل النار قد أمر بهم إلى النار» وذلك لما يتعلق بالأموال من حقوق، ويلحق أهلها بسببها من تبعات. إن الدنيا وإن انبسطت واتسعت، وأتت صاحبها على ما يريد، فإنها محفوفة بالأنكاد والأكدار، والشرور والأخطار، وأنواع المخاوف، ومختلف الأضرار، وكلها منغصات للعيش، ومكدرات لصفو الحياة، فلا يهذبها وينقيها، ويصرف عن العبد شر ما فيها، إلا الاستقامة على الدين، وأن يعيش المرء فيها مع سعتها عيشة الزاهدين الموقنين بالرحيل، والعرض على الرب الجليل، عند (م) أنه صلى الله عليه وسلم قال : «قد أفلح من أسلم وكان رزقه كفافا وقنعه الله بما آتاه» وفي (خ م) أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال : «اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا».

عباد الله: إن طيب الحياة، والسعادة بعد الممات، لا تكون بكثرة الأموال وتنوع الممتلكات، ولا بالتمكن من الشهوات، مع الغفلة عن حق رب الأرض والسموات، المطلع على الضمائر والنيات، وإنما تكون بطاعة رب العالمين، المبنية على الفقه في الدين، والإخلاص لله ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم  من العاملين، وذلك بأداء فرائض الطاعات، وتكميلها بالنوافل المستحبات، واجتناب الكبائر الموبقات، والحذر من الصغائر المحقرات، وترك ما لا يعني واتقاء الشبهات، وسؤال الثبات على الحق حتى الممات.

الخطبة الثانية:

الحمد لله:

عباد الله: لو نظرنا إلى عهد الصحابة رضي الله عنهم لوجدناهم أسعد الناس وأطيبهم حياة، أقبلوا على كتاب ربهم، وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم يهتدون بنورهما، وينهلون من معينهما، فانتشروا في أنحاء الدنيا، حتى رأى الناس فيهم أمثلة فريدة، فدخلوا في دين الله أفواجا. والمسلمون في هذا العصر في أمس الحاجة إلى أن يحيوا حياة طيبة، ولكن ذلك لا يأتي بالتمني، بل بالعمل الصالح. فطيب الحياة، وسعادة الأبد، لا تنال بكثرة العرض، ولا بالإخلاد على الأرض، وإنما تنال بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، وحلوه ومره، وإخلاص الدين لله رب العالمين، وإقام الصلاة، والمحافظة عليها في المساجد مع جماعة المسلمين، وأداء الزكاة والحج والصيام وبر الوالدين، وصلة الأرحام، وعشرة الزوجة بالمعروف، وحسن تربية الأولاد، وبسط اليد بالنفقات الواجبات والمستحبات على القرابات، وذوي الحاجات، والإحسان إلى الأيتام والضعفاء والمساكين، وإغاثة الملهوفين المكروبين والمنكوبين، فإن هذه الأعمال من خصال أهل الإيمان والتقوى الذين وعدهم الله بكل خير في الدنيا والآخرة ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاًّ (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ ﴿ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً﴾ وقال تعالى عند ذكر النار ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى﴾ وقال ﴿تِلْكَ الجَنَّةُ الَتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِياًّ﴾ وقال جل ذكره ﴿أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ البُشْرَى فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ﴾ .

عباد الله: لقد سبق المتقون إلى كل بر، فحازوا كل خير، من شرح الصدر، ويسر الأمر، وذهاب الهم، وانكشاف الغم، والزيادة من صالح العمل، والسداد في القول، وبركة العمر، وسعة الرزق، والطهارة من سيء الخلق، مع ما لهم عند الله من عظيم الأجر، ورفيع الذكر، ورفعة الدرجات، وحط الخطيئات، وبذلك تطيب الحياة، وتتحقق السعادة بين المخلوقات، وتنال الغرف العالية من الجنات، والفوز برضوان رب الأرض والسموات، فمن اتقى الله وأدى واجب ما عليه من حق الله، وتزود بنوافل العبادات، وأكثر من فعل المعروف وبذل الصدقات، فتح الله له أبواب الرزق، ويسر له أسباب الكسب، وجعل في قلبه القناعة والرضى، اللذين هما أغنى الغنى، ونعم المال الصالح للرجل الصالح، فالعمل الصالح هو همة التقي، والمال الصالح لا يستغني عنه ولي، والله يحب المؤمن القوي، والغني التقي، فمن أخذ المال من حله، ولم يشغله عن طاعة ربه، أو يبذله في معصيته، فهو المؤمن التقي الذي يعيش في نفسه وأهله عيشة راضية مرضية، وحياة سعيدة زكية، قد قنعه الله بما آتاه، ومتعه به متاعا حسنا في دنياه.