التحذير من التدمير

بسم الله الرحمن الرحيم

التحذير من التدمير

أمّا بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، فإنَّ تقواه أقوى عدّةٍ عند البلاء، وأمضَى مكيدةٍ عند البأساءَ والضرَّاء، واعلموا أنّ الدهرَ مشحونٌ بطوارقِ الغِيَر، مشوبٌ صَفوُ أيامِه بالكدَر، ولا محيصَ عن القدر المقدور، ولا رادَّ للأمر المسطور، ولا مانعَ للكتاب المزبور.

أيها المسلمون: إنَّ بلادَنا محسودَة ، وبالأذى مقصودَة، لا تسلَم من تِرةِ مُعادٍ وحاقِد ، وظلم مناوٍ وحاسِد، والأمةُ تمرّ في هذا الزمانِ العصيب ، بأحرَج مواقِفها ، وأصعبِ ظروفها ، وأشدِّ خطوبها، تتلقَّى الطعَناتِ الغادرةَ ، والهجماتِ الماكرةَ ، بأيدي أبنائها وأعاديها .

ولا تزال الأمور المفزعةُ ، والفظائع المفجِعة ، والجرائمُ المروِّعة ، تمارَسُ باسم الدين ، وترتكب باسم الجهاد ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾ .

أيّها المسلمون:الجماعةُ منَعَة، والفرقةُ مَهيَعة، الجماعةُ لُبّ الصَّواب، والفرقةُ أسُّ الخراب، الفرقةُ بادرةُ العِثار ، وباعثةُ النِّفار، تحيلُ العَمار خرابًا، والأمنَ سرابًا، وهي العاقِرة والحالقة .

وإنَّ أعداءَ الملّة لا يألون جهدًا في محاولةِ تفريق الكلمةِ ، وتمزيق الصفّ، صدعًا للأُمّة، وقطعًا للعُروة، ليُحكِموا السيطرةَ ، ويفرِضوا الهيمنة، ومتى تفرّقتِ الأهواء ، وتبايَنتِ الآراء ، وتنافرتِ القلوب ، واختلفتِ الألسن ، وقع الخطرُ بأكمَله ، وجثمَ العدوُّ بكلكلِه.

وإنّ هذه البلادَ المباركة ، هي موئلُ العقيدةِ ، ومأرِزُ الإيمان ، وجزيرةُ الإسلام ، ومحَطُّ أنظار المسلمين ، في جميع الأمصار والأقطار ، ومهوَى أفئدةِ الحجَّاجَ والعُمَّار والزُّوار، وستظلُّ بحولِ الله بلدًا آمنًا مطمئنًّا ، ساكنًا مستقرًا ،  متلاحمًا متراحمًا. وإن رغمت أنوف .

 لقد خرجَت علينا عُصبةٌ غاوِية، وحفنَة شاذّة ، وسُلالة ضالّة، في محاولةٍ يائسة ، وإرادة بائسةٍ ، لنشر الفوضى ، وشقِّ العصا ، وإثارة الدهماء والغوغاء، فأظهروا مكنونَ الشِّقاق، وشهَروا سيوفَ الفتنة، وجاهروا بالمحادّة والمضادّة، بعقيدةٍ مدخولة ، وأفهامٍ كليلةٍ ، وأبصارٍ عليلة، فكفّروا وروّعوا ، وأرعبوا وقتلوا ، وفجَّروا وخانوا وغدَروا، فلا عن المعاهَدين كَفّوا، ولا عن المسلمين عَفُّوا، رمَوا أنفسَهم في أتّون الانتحار بدعوَى الاستشهاد ، ودَرَكاتِ الخروج بدعوَى الجهاد.

هَمَجٌ رعَاع ، يتبعون كلَّ ناعِق ، ويسيرون خلفَ كلِّ ناهِق، يقابلون الحُجَج باللَّجج ، والقواعِدَ بالأغاليط ، والمحكمات بشُبهٍ ساقِطة، لا تزيدُهم إلاّ شكًّا وحيرةً واضطرابًا، قومٌ باغون، من جادل عنهم فقد جادل عن الباطل، ومن أعانهم فقد أعان على هدمِ الإسلام، حُدثاء أغرار ، وسفهاءُ أشرار، خالفوا ما درجَ عليه السلفُ ، وانتهجه بعدَهم صالحو الخلَف ، في صحيح مسلم يقول صلى الله عليه وسلم : «من خرج مِن الطاعةِ ، وفارق الجماعةَ ، ثم مات مات ميتةً جاهلية، ومن خرج مِن أمّتي ، على أمتي يضرِب بَرَّها وفاجرها ، ولا يتحاشَى من مؤمِنها ، ولا يفي لذي عهدٍ عهدَه فليس منِّي».

أيها المسلمون، إنّ هذه الفتنةَ لن تعدوَ أن تكون سحائبَ صيفٍ ، عن قليلٍ تَقشَّع، وعروقَ باطلٍ ، لا تُمهَل أن تُقطَع، فالمتالِف لها راصِدة، والعزائم بإذن الله لها حاصِدة.

إنه لا اتفاقَ لكلمةٍ ، ولا انتظامَ لشتات ، ولا سلامةَ من عاديات ، إلا بتوحيدِ الكلمة على كلمةِ التوحيد ، واجتماعِ المشارِب على المنهج السَّديد ، والطريق الرشيدِ ، كتابِ الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم بفهم سَلفنا الكرام.

وإنّ هذه القلاقلَ ، إنما تُدفَع بالتوبة والاستغفار، وتُرفَع بالتضرُّع والافتقارِ والإقلاع عن الذنوب والأوزار، فالأمنُ بالدين يبقَى، والدين بالأمن يقوى، فاحتَموا من المعاصي مخافةَ البلاءِ ، كما تحتمون بالطيّبات مخافةَ الداء، فلم يُبتَل المسلمون اليومَ بنقمةٍ نازلةٍ ، ولا بنعمةٍ زائلة ولا شدّةٍ ولا كارثة ، إلا بسببِ فُشوِّ المعاصي ، وظهورِ المنكَرات ، وانتشارِ المحرّمات ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ ولم تحدُث فتنةٌ وشرور ، إلا بسبب ما أُحدِث من عصيانٍ وفجور، فكُفُّوا عن المعاصي المهلِكة ، والذنوبِ والموبقة، وتوبوا توبةً صادِقة، تُدفَع عنكم النِّقَم، وتحْرَسْ عليكم النِّعمَ، ويَدُم عزُّكم بين الأمم، قال جل في عُلاه ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا﴾ .

أيّها المسلمون: الدعاءُ غايةُ كلِّ مكلوم ، وسلاحُ كلِّ مظلوم ، وراحَة كلِّ مهموم، فاجأروا إلى الله بالشِّكايةِ ، وارفَعوا إليه أكفَّ الضّراعة .

الخطبة الثانية

لا إله  إلا الله  لا يكون شيء إلا بتدبيره ، ولا يحدث حدث إلا بتقديره ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ يعز من يشاء ويذل من يشاء ، ويرفع من يشاء ويخفض من يشاء ، لا يخفى عليه شيء في الأرض  ولا في السماء ﴿يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ ﴿مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً﴾  قال ابن عباس :  لماذا لا تعظمون الله حق عظمته  . والله موصوف بكل صفة كمال ، فله العلم المحيط  ، والقدرة النافذة ،  والكبرياء والعظمة ، السماوات والأرض في كف الرحمن أصغر من خردلة ،  والله يملي للظالمين . ويحذر عباده من الطغيان ويخوفهم بالعقوبة . ﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الخَاسِرُونَ﴾.

عباد الله : تأملوا في أقدار الله ، تأملاً يعلم الجاهل . وينبه الغافل ، ويثبت العالم ، ويرد المكابر ، ويرغم أنف المعاند .  تأملاً يرد المقادير إلى مقدرها ، تأملاً يبين ضعف ابن آدم ، وإن طغى وبغى ، وإن أظهر القوة على الضعفاء  ، إهتزت الأرض ،فطغى الماء ، واهتزت البنايات  ، فاهتزت لها قلوب ملايين البشر،  تداعت  وانهارت ، فانهار معها اقتصاد دول ، ذلت فعز غيرها . انهارت فعلا سواها . توالت تلك الأحداث ،  في دول شتى ، وأقطار متباعدة ، بأمر من يقول للشيء كن فيكون ، وليس بتقدير الطبيعة ، ولا بغضب الماء كما يقول الجاهلون ، فلاإله الا الله ،  يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد . الماء رحمة ، وقد يكون بتقدير الله نقمة ، بسبب الزلازل والمياه ، وصل القتلى مائة ألف أو يزيدون ،والخسائر بالمليارات ، ولا تسأل عن ما أصاب القوم من الخوف والفزع ، الجثث متراكمة ، وقد عدم الغذاء والدواء ، أفبعد هذا يستبعد جاهل ، أو يشك شاك في قدرة  الله . فاللهم احفظنا بحفظك ، واكلأنا برعايتك ، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين .

فاتقوا الله عباد الله ، وتمسكوا بحبله المتين ، وبشرعه القويم ، تفلحوا وتسودوا . اللهم ...