الإشاعة وأضرارها

بسم الله الرحمن الرحيم

الإشاعة وأضرارها

أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فاتّقوا الله رحِمكم الله، فاللّبيب من تفكّر في مآله، والحازمُ من تزوّد لارتِحاله، والعاقلُ من جدّ في أعمالِه، نظر في المصِير، وجانَب التّقصير، ترك الحُطام، واجتنَب الحرام، فخُذوا مِن أموركم بالأحزم ، فأمامَكم يومٌ لا ينفع فيه النّدم، ولا يُفيد فيه الأسَف إذا زلّت القدم ﴿يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾.

عباد الله: إن دين الإسلام اليوم ، يحارب بكل شدة وعنف ، من قبل أعدائه يستخدمون كل وسيلة مقروءة ، ومرئية ومسموعة ، في سبيل الصد عن سبيل الله وعن دينه. ولقد تسلطت الأجهزة اليهودية والصليبية والشيوعية والمنافقين، لتشويه الإسلام وتصويره ديناً وثنياً ، أو إرهابياً أو وهابياً.

ولقد استخدم أعداء الدين قديماً وسيلة التشويه، وصدرت الإشاعات من أعداء الله إلى خلاصة خلقه ، فهذا نوح عليه السلام اتهم بإشاعة من قومه بأنه ضال ﴿إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ﴾ ويشاع عنه الجنون ﴿وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ﴾ وهذا نبي الله هود عليه السلام، يشاع عنه الطيش والخفة كما قال تعالى عن قومه ﴿إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكَاذِبِينَ﴾ ثم هذا موسى عليه السلام، يحمل دعوة ربه إلى فرعون وملائه وقومه، فيطلق فرعون الشائعات فيقول ﴿إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ﴾ وفي معركة أحد، عندما أشاع الكفار أن الرسول صلى الله عليه وسلم قتل فتّ ذلك في عضد كثير من المسلمين، حتى أن بعضهم ألقى السلاح وترك القتال ، ولقد حاولوا تشويه صورة النبي صلى الله عليه وسلم عند العرب لكيلا يقبل دعوته أحد، فقالوا ساحر وقالوا كاهن وقالوا مجنون. وفي حادثة الإفك، تلك الشائعة التي طعنت في عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الشائعة التي هزت بيت النبوة شهراً كاملاً، بل هزت المدينة كلها.

حربٌ مسْتعِرة ومعاركُ ضارية، يدور رحاها في إطلاق الشائعات ، وبث الدعايات ، غرسٌ للكراهية، وتكريسٌ للأحقاد، وتكدِيس للضّغائن، ونشرٌ للبغضاء، وتجاوزٌ للأعراف.

أيها المسلمون : وفي هذه الأجواءِ المكفهرَّة ، ومع التقدّم المتعاظِم في وسائلِ الاتّصال ، يجِب الحذَر ثم الحذرُ ، عمّا يشيعه المرجفون ، وتتناوله آلاتُ الإعلام ، وتتناقله وسائِل الاتّصال ، وشبكات المعلومات ، من شائعاتٍ وأراجيف ، في عصرِ السّماء المفتوحة ، والفضاءات التي تُمطِر أخباراً ، وتلقِي أحاديثَ وتعليقات ، لا تقف عند حدّ. فلا بدّ من التّمييز بين الغَثّ والسّمين.

إنَّ الأراجيفَ والشّائعات ، التي تنطلق من مصادرَ شتّى ، ومنافذَ متعدّدة إنّما تستهدِف التآلفَ والتكاتُف، وتسعى إلى إثَارة النّعَرات والأحقادِ ، ونشر الظنون السيّئة ، وترويج السّلبيات وتضخِيم الأخطاء.

الإشاعاتُ والأراجيف ، سلاحٌ بيَد المغرِضين ، وأصحابِ الأهواء والأعداء والعمَلاء، يسلكُها أصحابُها لزلزعةِ الثوابِت ، والتشكيك في المسلمات.

عبادَ الله:الأمّة تعيش أزماتٍ وهزائمَ وإحباطات، وهؤلاء الخفافيش سامدون، يضحكون ولا يبكون، في منتدياتِهم يتسامَرون، وفي أجواء من الجدَل العقيم يتفيقهون، وفي الشائعاتِ والأراجيف والتحليلات البارِدة يخوضون. ديدَن أكثرِهم التلاسُن ، في تجمّعاتهم وقنواتِهم ، ومواقِعهم وصفحاتِهم ، شائعاتٌ وأراجيف ، يقذِفون بها في مجالسَ عامّة ، ومنتدياتٍ مفتوحة، لا تثبُت أمام التّحقيق ولا تقِف أمام التحرّي.

الشائعاتُ في أوقاتِ الفتن تُنبت الذّعر، وتزرَع الكراهية، وتحطّم الروحَ المعنويّة، وتثير عواطفَ الجماهير، وتُبلبل الأفكار، وتفقِد الثقةَ بالنفس والأمّة والقيادة، وتنشر الضّغائن، وتصدّع الكَيان، كم أقلقَت من أبرياء، وهدّمت من وشائج، وسبَّبت من جرائم، وقطّعت من علاقات، وأخّرت أقواماً، وعطَّلت مسيرَة، وهزمت جيوشاً.

أيّها المسلمون: وغالباً ما تصدُر الشائِعة إلا من مكروه أو مَنبوذ، فرداً أو جَماعة، قد امتلأ بالحِقد قلبُه، وفاض بالكراهية صدره، وضاقت بالغيظ نفسُه، فيطلِق الشائعةَ لينفّس من غيظِه، وينفثَ الحقدَ والكراهية من صدره. الإرجافُ لا يصدر إلا مِن عدوّ حاقدٍ ، أو عميل مندَسّ ، أو غِرٍّ جاهل. يطلق إشاعاته ليلهب حماس السذج ، مرة بدعوى الإصلاح ، وثانية بدعوى الإنفتاح ، وثالثة لنقض بيعة ولي أمر المسلمين ، والسير في مظاهرات عارمة ، تسبب الفوضى والاضطراب .

صاحب الإشاعة ، يحسد في السراء ، ويشمت في الضراء، على الهم مقيم، وللحقد ملازم، تسوءه المسرة، وتسره المساءة، قد أوتي بسطةً في اللسان ، تغريه بالتطاول على الحاكم والعالم، والوجيه وذي المنزلة، الكلام عنده شهوة عارمة، إذا تكلم عن حقائق الدين والعلم ، شوَّه الحق وأضاع الهيبة. يخوض في الدين وفي السياسة، والعلم والأدب، يقطع وقته جدلاً ومراءً، وغيبة وبهتانًا، وإفكًا مبينًا.

ألا فاتّقوا الله رحِمكم الله، واحفَظوا ألسنتَكم، ﴿وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ .

الخطبة الثانية

فشوُّ الإشاعة في المجتمع مظهر من مظاهر الخلل، وقلة الورع، وضعف الديانة. صورة تشوش على حفظ الحرمات ، وسلامة القلوب ، وصيانة الأعراض ، وتحري الحق.

عباد الله : هؤلاء الذين يطلقون الشائعات ، إنما هم يلقون العداوة والبغضاء بين المسلمين فيتفكك المجتمع ، وتتفرق الجماعة ، من أجل أمور وهمية ، وظنون كاذبة . يبعثون الفتن، ويزرعون الإحن، ويبلبلون على العامة، يقطعون الصلات، ويفرقون الجماعات، حمَّالو الحطب، ومشعلو اللهب، يوزعون الاتهامات، ويتتبعون المعايب؛ العين غمازة، واللسان همازة، والكلمات لمازة، مجالسهم شر، وصحبتهم ضر، وفعلهم عدوان، وحديثهم بذاء. وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها، يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب» .

أيها المسلمون : تأمّلوا هذه التّوجيهات الدّقيقة والخطوات المرتّبة في الموقف من الشائعات والأراجيف، يرسمُها القرآن الكريم ويبيّنها أوضحَ بيان:

التوجيه الأول: حسنُ الظنّ بالمسلمين ﴿لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ﴾ .

التوجيه الثاني: الموقفُ الحاسِم والجازم ، في ضرورة إثباتِ هذه الشائعة ﴿لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ﴾ وذلك يقتضي مِن المجتمع أن لا يستَمع إلى شيء أو يقبَله من غير بيّنة ظاهرة، فإذا لم تُوجد بيّنة ضُمّت هذه الشائعة لطائِفة الكذِب والكذّابين ﴿فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الكَاذِبُونَ﴾ .

التّوجيه الثالث: الموقفُ الصارم من المجتمع في رفضِ الإشاعةِ ، وعدم السّماح برواجِها والتكلّم بها ﴿وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ﴾ .

التوجيه الرابع: أن يرد الأمر إلى أولى الأمر، ولا يشيعه بين الناس أبداً، وهذه قاعدة عامة في كل الأخبار المهمة، والتي لها أثرها الواقعي ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾.

أيّها المسلمون : إن الذي يتعيَّن اعتمادُ أخبار الثقات العدول، والبعدُ عن السّماع مِن الفسّاق والمجاهيل ، ومن عُرِف بكثرةِ نقل الأخبارِ من غيرِ تثبّت ،  ومن عُرف بالمبالغَة في التفسيرات ، والفهوم البعيدة والتحلِيلات، ومن تربى في أحضان الغرب ، وحماه أعداء الملة ، كما ينبغِي صونُ اللسان في أوقاتِ الفتَن والأجواء التي تروج فيها الشائعاتُ والأراجيف، بل إنَّ العقل والإيمانَ ليدعُوان صاحبَهما إلى الموازنات بين مصلحةِ الكلام ومصلحةِ الصّمت «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقُل خيراً أو ليصمُت».

ألا فاتقوا الله رحمكم الله، فطوبى لمن أمسك الفضل من قوله، ثم طوبى لمن ملك لسانه، ثم طوبى لمن حجزه عن الناس ما يعلم من نفسه، وطوبى لمن استمسك بتوجيهات كتاب ربه فتوجه إلى مولاه بقلب ضارع ولسان صادق .