الفتور في شهر الأجور

بسم الله الرحمن الرحيم

الفتور في شهر الأجور

12/9/1429هـ(غ)

فإنكم في شهر لا يشبُهُه شهر، عظيم الأمر، جليل القدر، هو من أشرف أوقات الدهر، فضائله لا تحصى، ومحامده لا تُستقصى، موسمٌ وافرُ الأرباح لمن اتَّجر، مهلكٌ لأرواح من طغى فيه وفجر.

أيها المسلمون: لقد مضى من رمضان ثلثه، وانقضى منه بعضه، فاغتمنوا فرصة تمرُّ مرَّ السحاب، ولِجوا قبل أن يُغلق الباب، وبادروا أوقاته مهما أمكنكم، واشكروا الله على أن أخّركم إليه ومكّنكم، واجتهدوا في الطاعة قبل انقضائه، وأسرعوا بالمثاب قبل انتهائه، فساعاته تذهب، وأوقاته تُنهب، وزمانه يُطلب، ويوشك الضيف أن يرتحل، وشهر الصوم أن ينتقل، فأحسنوا فيما بقي، يغفر لكم ما مضى.

عباد الله: تصرم الشهر وانهدم، وفاز من بحبل الله اعتصم، وخاف من زلّة القدم، واغتنم شهر رمضان خير مغتنم، وشقي الغافل العاصي بين الذل والسقم، والأمن والندم، ويا ويله يوم تحل على أهل المخالفة الآفات، يوم تنقطع أفئدة أهل التفريط بالزفرات، يوم يُحشر أهل المعاصي والدموع على الوجنات، يقول الرب العلي في الحديث القدسي «يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» [أخرجه مسلم]

أيها المسلمون: أين من كانوا معنا في رمضان الماضي؟! أما أفنتهم آفات المنون القواضي، وأعدمتهم صوماً وفطراً، وزوّدتهم من الحنوط عِطرا، أما أدارت عليهم المنون رحاها، وحَكَّ وجوههم الثرى فمحاها؟! ثم أين من صاموا معنا في أول الشهر، وقاموا أوله يبتغون الأجر؟! أتاهم هادم اللذات، وقاطع الشهوات، ومفرّق الجماعات، فنقلوا من القصور المنيفة إلى بطون الحفر، ومن الفرش الوثيرة إلى خشونة المدر، ونحن – يا عباد الله – على الأثر، فتأهبوا لمثل ما حلّ بهم من الغِيَر، وتذكروا مرارة الموت الذي لا يسلم منه بشر، ولو سلم منه أحدٌ لسلم سيد البشر .

أيها المسلمون، من الذي طلبه الموت فأعجزه؟! من الذي تحصَّن في حصنه وما أدركه؟! من الذي سعى في مُناه فما أعوزه؟! من الذي أمّل طول الأجل فما حجزه؟! أي عيش صفا وما كدّره؟! وأي غصن علا على ساقه وما كسره؟! لقد أخذ الآباء والأجداد، وأرمل النساء وأيتم الأولاد، وحال بين المريد والمراد.

عباد الله، لا دافع عنكم من الموت يقيكم، فتوبوا قبل أن تندموا إذا غصّت تراقيكم، ﴿إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ

أيها المسلمون، أيام رمضان تاج على رأس الزمان، من رُحم فيها فهو المرحوم، ومن حُرِم خيرها فهو المحروم، ومن لم يتزوَّد من عامه فيها فهوَ الظلوم الملوم، صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فقال: «آمين، آمين، آمين»، فقلنا: يا رسول الله، إنك صعدت المنبر فقلت: آمين، آمين، آمين!!، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن جبريل عليه السلام أتاني، فقال: من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له، فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين، قلت: آمين»

فيا من فرّطتم في شهر رمضان القائم، هل أنتم على يقين من العيش إلى رمضان قادم؟! فقوموا بحق شهركم، واتقوا الله في سرِّكم وجهركم، واعلموا أن عليكم ملكين يصحبانكم طول دهركم، ويكتبان كل أعمالكم، فلا تهتكوا أستاركم عند من لا تخفى عليه أسراركم.

أيها المسلمون، إن أيام رمضان يجب أن تُعظَّم وتصان، وتُكرَّم ولا تُهان، فهل حبستم غرضكم فيها عن فضول الكلام والنظر؟! وكففتم جوارحكم عن اللهو والأشر؟! واستعددتم من الزاد ما يصلح للسفر؟! أم أنتم ممن تعرض في هذا الشهر للمساخط، وقارف المظالم والمساقط، وتاه بالدنيا وكأنه خُلق فيها لها، وسلك بنفسه طريق الهوى فأهلكها، ولْتُحرس منكم في هذا الشهر العينان، وليحفظ فيه اللسان، ولتُمنع من الخُطا في الخَطا القدمان، وذلك واجب في كل زمان، ويتعاظم في شهر رمضان، يقول سيد الأنام صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعام وشرابه» [أخرجه البخاري] وقال جابر بن عبدالله الأنصاري رضي الله عنه: «إذا صُمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء» يا عبد الله، جدّ القوم وأنت قاعد، وقربوا وأنت متباعد، وقاموا وأنت راقد، وتذكروا وأنت شارد، إن قام العُبادُ لم تُرَ بينهم، وإن عُدَّ الصالحون فلست معهم، ترجو النجاة ببضاعة مزجاة، فلا صلاة ولا مناجاة، ولا توبة ولا مصافاة، لقد باشر الصالحون ليالي رمضان بصفاح وجوههم، وقيام أبدانهم، خالف خوف الله بينهم وبين السُهاد، وأطار من أعينهم الرقاد، عيونهم من رهبة الله تدمع، قلوبهم من خوفه تلين وتخشع، يعبدونه في ظلمة الليل والناس ضُجَّع، قومٌ أبرار، ليسوا بأثمة ولا فُجار.

اللهم..........................................

الخطبة الثانية:

أيها المسلمون:اقصدوا باب التوبة تجدوه مفتوحاً، وابذلوا ثمن الجنة بدنا وروحاً، وأقبلوا على الله ما دام الأجل مفسوحاً.

أيها المسلمون، أنهينا ثلث رمضان، فلا بد من حساب، كيف مضت أيام الشهر الماضية؟ وكيف انقضت لياليه، ذهب الثلث والثلث كثير، فماذا فعلنا وقدمنا فيما مضى وهل من عملية تحسين ومضاعفة وازدياد في العبادة فيما سيأتي؟

أيها الناس: إننا نشعر بنوع من نقص العبادة ونوع من التكاسل والفتور في وسط رمضان، هذا شيء ملاحظ فإن الناس في العادة ينشطون في أيام رمضان الأولى لما يحسّون من التغيير وما يجدون من لذة العبادة نتيجة الشعور بالتجديد في أول الشهر، ثم ما يلبث هذا الشعور أن يبدأ في الاضمحلال ويصبح الأمر نوعاً من الرتابة في العشر الأواسط ونلحظ هدأة الرجل على بعض الصلوات في المساجد خلافاً لما كان عليه في أول الشهر، ونلاحظ نوعاً من القلة في قراءة القران في وسط الشهر عما كان عليه في أوله، ثم تأتي العشر الأواخر بعد ذلك وما فيها من القيام وليلة القدر لتنبعث بعض الهمم والعزائم مرة أخرى.

ولعل من أسباب هذا أن بعض الناس يحسون بالعبادة في أول الشهر، فإذا مر عليهم فترة فإن عبادتهم تتحول إلى عادة وشيء رتيب، فما هي السبل لمنع هذا التحول كيف نمنع تحول عبادتنا عبادة الصيام إلى عادة.. كيف نعيد اللذة والحيوية إلى هذه العبادة ونحن في أواسط رمضان؟

عباد الله: ينبغي أن نحقق التعبد في الصيام باستحضار النية أثناء القيام به، وأن العبد يصوم لرب العالمين، كما ينبغي أن نستمر في تذكر الأجر في هذا الصيام وفضيلة العبادة في هذا الشهر الكريم، نتذكر دائماً ونعيد إلى الأذهان حديثه صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه»، ثم علينا أن نتذكر أن لله عتقاء من النار وذلك كل ليلية، فقد تكون أنت عتيق الله من النار في أواسط هذا الشهر، فلماذا الكسل والتواني؟ لابد من الانبعاث وإعادة الهمة.

فيا من قضيت ليلك في معصية الخالق، وأضعت ليالي رمضان الشريفة في المحرمات والبوائق، يا لها من خسارة لا تشبهها خسارة، أن ترى أهل الإيمان واليقين، وركائب التائبين وقوافل المستغفرين، قد حظوا في ساعات الليل بالقرب والزلفى والرضوان، وقد رُميت بالطرد والإبعاد والحرمان، استدرك من رمضان ذاهباً، ودع اللهو جانباً، والحق بالقافلة، وتقلب في منازل العبودية بين فرضٍ ونافلة، واجعل الحياة بطاعة ربك حافلة، وحافظ على التراويح والقيام، فيما تبقى من الأيام، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه»[متفق عليه]