الإخلاص وأثره في الأعمال

بسم الله الرحمن الرحيم

الإخلاص وأثره في الأعمال

الخطبة الأولى:

عباد الله

إن الله خلق الخلق ليعبدوه ويفردوه بالطاعة والوحدانية ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ

أيها المسلمون:

إن الإخلاص من أوجب الواجبات ومن أبر الطاعات ، وهو حقيقة الدين ومفتاح دعوة المرسلين وهو أساس كل عمل صالح فإذا خلا منه عمل فلا قيمة له ولا ثواب ، بل يعود وبالا على صاحبه فإن عدم الإخلاص هو الدخول في مسمى الشرك بالله تعالى المحبط للعمل كما قال تعالى في الحديث القدسي «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» رواه مسلم (5300) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

إن الإخلاص : تصفية العمل من كل شائبة، بحيث لا يمازج هذا العمل شيء من الشوائب في إرادات النفس، من طلب مدح أو مال أو رياسة أو منزلة في قلوب الخلق ، أو أن يقضوا له حوائجه، أو غير ذلك من العلل والشوائب والإرادات السيئة التي تجتمع على شيء واحد، وهو: إرادة ما سوى الله عز وجل بهذا العمل.

 فالإخلاص توحيد الإرادة والقصد، أن تفرد الله عز وجل بقصدك وإرادتك فلا تلتفت إلى شيء مع الله تبارك وتعالى.

أيها المسلمون:

إن للإخلاص في الإسلام منزلة عظيمة ومما وضح ذلك ما يلي:

أولا: أن الإخلاص هو روح العمل: فعمل لا إخلاص فيه كجسد لا روح فيه، فهو بمنزلة الروح من الجسد، يقول ابن الجوزي رحمه الله : "العمل صورة والإخلاص روح، إذا لم تخلص فلا تتعب، لو قطعت سائر المنازل – في الحج – لم تكن حاجاً إلا ببلوغ الموقف" .

فإن العامل بلا إخلاص كادح لا أجر له، فالله عز وجل يقول: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُوراً﴾.

 ويقول ابن حزم: "النية: سر العبودية، وهى من الأعمال بمنزلة الروح من الجسد، ومحال أن يكون في العبودية عمل لا روح فيه؛ إذ هو بمنزلة الجسد الذي لا روح فيه، وهو جسد خراب".

ثانيا: أنه لا سبيل إلى الخلاص والانفكاك من التبعات إلا بالإخلاص:

يقول ابن القيم رحمه الله: "ما من فعلة وإن صغرت إلا ينشر لها ديوانان: لِمَ وكَيْفَ ؟؟ أي: لم فعلت، وكيف فعلت ؟

فالأول: سؤال عن الإخلاص، والثاني: عن المتابعة، فإن الله سبحانه لا يقبل عملاً إلا بهما، وطريق التخلص من السؤال الأول: بتجريد الإخلاص، وطريق التخلص من السؤال الثاني: بتحقيق المتابعة وسلامة القلب من إرادة تعارض الإخلاص، وهوى يعارض الاتباع، فهذه حقيقة سلامة القلب التي ضمنت له النجاة والسعادة".

ومن هنا نعلم شأن الإرادات والمقاصد والنيات، وخطرها، وعظيم أثرها وشأنها، ولهذا قال يحيى أن أبي كثير رحمه الله تعالى: "تعلموا النية؛ فإنها أبلغ من العمل" . وذلك لأنها تبلغ بصاحبها ما لا يبلغه عمله- كما سيأتي إن شاء الله-ويقول ابن أبي جمرة- وهو أحد شراح الصحيح- : "وددت أنه لو كان من الفقهاء من ليس له شغل إلا أن يعلم الناس مقاصدهم في أعمالهم، ويقعد في تدريس أعمال النيات ليس إلا؛ فإنه ما أتي على كثير من الناس إلا من تضييع ذلك".

أيها المسلمون:

إن الإخلاص ابتلاء من الله ليرى الذي يريد الله والدار الآخرة والذي همه الدنيا قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ فليست العبرة بالكثرة إنما العبرة بالصواب مع حسن القصد:

قال الفضيل بن عياض: "هو أخلصه وأصوبه قالوا  يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه فقال  إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا  لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص  أن يكون لله والصواب أن يكون على السنة. ثم قرأ قوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾".

فمن ترك الإخلاص وقع في ضده وهو الرياء الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم وخافه على الصالحين من أمته حين قال لأبر الناس قلوبا وهم الصحابة : «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ قَالُوا وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الرِّيَاءُ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا جُزِيَ النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمْ اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فِي الدُّنْيَا فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً» رواه أحمد (22523) عن محمود بن لبيد وصححه الألباني الصحيحة (951).

وقد روي في الأثر: "من أحسن الصلاة حيث يراها الناس وأساءها حيث يخلوا فتلك استهانة استهان بها ربه تبارك وتعالى" رواه البيهقي

عباد الله:

إن الرياء من خلق المنافقين كما قال تبارك وتعالى ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً﴾ .

وقد توعد الله أهل الرياء بقوله: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾.

والمراءون هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة روى مسلم في صحيحه (3527) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا قَالَ مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ» .

فاحذروا من الانزلاق في هذه الهوة الخطيرة وليفتش كل منا في قلبه فقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم هذا الشرك بأنه أخفى من دبيب النمل، وليطهر كل منا عمله قبل أن يأتي يوم تبلى فيه السرائر فما لكم من قوة ولا ناصر، واحذروا من رب عظيم يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور،

روى البخاري في الأدب المفرد (554/716) عن معقل بن يسار قال: انطلقت مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم . فقال: «يا أبا بكر ! للشرك فيكم أخفى من دبيب النمل» . فقال أبو بكر: وهل الشرك إلا من جعل مع الله إلها آخر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده ، للشرك أخفى من دبيب النمل ، ألا أدلك على شيء إذا قلته ذهب عنك قليله وكثيره؟» . قال: «قل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم ، وأستغفرك لما لا أعلم». قال الألباني: (صحيح) [صحيح الأدب المفرد 266 باب فضل الدعاء- 296 ]

أيها المسلمون:

إن الإخلاص أمنية عزيزة وخصلة حميدة متى ما تميز بها المسلم سار في طريق النجاة والفلاح ولا بد له من مجاهدة صادقة حتى ينال رضا الله تعالى.

قال الربيع بن خثيم رحمه الله : "أدركت أقواما كان الواحد منهم ينام مع زوجته ويبتل ما تحت رأسه من الدمع لا تعلم زوجته به ، ولقد كان الرجل يصلى بجانب صاحبه فتسيل دموعه حتى تبلل لحيته لا يعلم به صاحبه".

وروي عن بعض السلف أنه رأى رجلا يبكي في المسجد فقال له : "أنت أنت !! لو كان هذا البكاء في بيتك".

وروي عن بعضهم أنه قال : "للمرائي ثلاث علامات : يكسل إذا كان وحده عن طاعة الله، وينشط إذا كان في الناس، ويزاد في العمل إذا أثنى عليه مادحوه".

أعاذنا الله وإياكم من الرياء ومن خلق أهل النفاق والشقاء.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾ .

بارك الله لي ولكم في القرآن.....

الخطبة الثانية:

أما بعد:

عباد الله

فإن للإخلاص أثارا وثمارا عظيمة منها:

1- أن الإخلاص يصير أي عمل وضع في ميزانه- ولو كان من المباحات والعادات- إلى عبادة وقربة، فإذا قام العبد بشيء من الأمور المباحة: كالنوم، أو الأكل، أو الشرب، أو المشي، أو غير ذلك، يريد به التقرب إلى الله عز وجل كأن ينام في النهار من أجل أن يقوم الليل، وكأن يأكل ليتقوى على الطاعة، فكل ذلك يكون عبادة في حقه؛ ولهذا كان السلف كما قال زبيد اليامي رحمه الله: "إني لأحب أن تكون لي نية في كل شيء حتى في الطعام والشراب" .

2- أن العمل بالإخلاص يكثر ويتعاظم: ولو كان العمل بالجوارح قليلاً إذا وُجد معه الإخلاص تجد بعض الناس له أعمال محدودة ومشاريع لربما كانت صغيرة في عين أصحاب الهمم العالية، ثم إذا نظرت بعد حين تجد أن الله عز وجل أوقع فيه ألوان البركات بسبب هذه الأعمال القليلة التي يعملها بحركة بطيئة، عمل قليل لكن وُجد فيه النية، فنفع الله عز وجل به، وصار له من الآثار الحميدة مالا يقدر قدره، ولهذا يقول ابن المبارك رحمة الله: "رُبَّ عمل صغير تكثره النية، وَرُبَّ عمل كثير تصغره النية".

و قال داود الطائي رحمه الله: "رأيت الخير كله إنما يجمعه حسن القصد، وكفاك به خيراً وإن لم تصنعه"

3- أن صاحب الإخلاص يُسدد وتنبع الحكمة في قلبه، وتصدر على لسانه: كما قال أحد علماء التابعين رحمة الله تعالى: "ما أخلص عبدٌ قط أربعين يوماً إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه".

فإذا صدق العبد مع الله عز وجل؛ فإن الله يسدده، ويوفقه، ويرشده إلى كل خير، وإذا نزلت الفتن واختلط الحق بالباطل، والتبس ذلك على كثير من الناس؛ فإن أهل الصدق يهدديهم ربهم بإيمانهم، ويوفقهم للصواب ،ويظهره على أبيديهم، وتنطق به ألسنتهم، وإذا كان العبد سيئ القصد؛ فإنه يخذل أحوج ما يكون إلى النصرة

4- من ثمرات الإخلاص المُعجَّلة:أن صاحب الإخلاص يكفيه الله عز وجل شأن الناس،  فلا يصله شيء يكرهه من جهتهم، وبالتالى لا يعيش تُؤَرَّقه الهموم؛ لأن هؤلاء يقعون في عرضه، ويظلمونه، ويعتدون عليه، فالله عز وجل يكفيه ذلك كما قال الله عز وجل: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ...﴾.

يقول عمر بن الخطاب رضى الله عنه: "من خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين بما ليس فيه شانه الله" ا.هـ [إعلام الموقعين 2/178] .

ويقول الفضيل بن عياض رحمه الله: "إنما الله يريد منك نيتك وإرادتك، ومن أصلح ما بينه وبين الله؛ أصلح الله ما بينه وبين الناس، وما أسّر أحد سريرة إلاّ أظهرها الله على صفحات وجهه، وفلتات لسانه، والمخلص من يكتم حسناته كما يكتم سيئاته، ومن شاهد في إخلاصه الإخلاص فإخلاصه يحتاج إلى إخلاص" .

أيها المسلمون:

إنكم على أبواب شهر عظيم شهر تفتح فيه أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب النار ، وتعتق فيه رقاب من النار فاسألوا الله أن يبلغكم شهركم واستعدوا له بالتوبة النصوح واستقبلوه بالإنابة إلى الله فالسعيد من عرف شرف أوقاته فاغتنمها.

واحذروا على أعمالكم في هذا الشهر العظيم أن يتطرق إليها شيء من الرياء فإن من مظاهر الرياء أن يتحدث الإنسان عن أعماله الصالحة من قيام وقراءة للقرآن وعدد للختمات ، يقول الله تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾ .

عباد الله

إن الله تعالى أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه .................................