قصة أبرهة وحماية البيت

بسم الله الرحمن الرحيم

قصة أبرهة وحماية البيت

عباد الله : لما بنى أبرهة القُلَّيس بصنعاء، في كنيسة لم ير مثلها في زمانها، واستذل أهل اليمن في بناء هذه الكنيسة، فكان من تأخر عن العمل حتى تطلع الشمس، يقطع يده لا محالة، وركّب فيها من الصلبان من ذهب وفضة، وجعل ارتفاعها عظيماً، واتساعها باهرا، ثم كتب إلى النجاشي : إني قد بنيت لك كنيسة، لم يبن مثلها لملك كان قبلك، ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب .

فلما تحدث العرب بكتاب أبرهة إلى النجاشي، غضب رجل من كنانة، فخرج حتى أتى القُلَّيس، فأحدث فيه، فأُخبر أبرهة بذلك، فقال : من صنع هذا ؟ فقيل له : صنعة رجل من أهل هذا البيت الذي تحجه العرب بمكة، فغضب أبرهة لذلك، وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه، ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت، ثم سار وخرج معه بالفيل، وسمعت بذلك العرب، فأعظموه ورأوا جهاده حقاً عليهم، فخرج إليه رجل من أشراف أهل اليمن وملوكهم، فقاتله، ولكنه هزم وأصحابه، ثم مضى أبرهة على وجهه، حتى إذا كان بأرض خثعم، قاتلته، ولكنها هزمت أيضاً وأسر قائدها، حتى إذا مرَّ بالطائف خرج إليه مسعود بن مُعتَّب في رجال ثقيف فقالوا له : أيها الملك، إنما نحن عبيدك سامعون مطيعون لك، ليس عندنا لك خلاف، ونحن نبعث معك من يدلك عليه، فتجاوز عنهم .فبعثوا معه أبا رغال، حتى إذا أنزله بالمُغَمِّس، مات أبو رغال هنالك، فرجمت قبره العرب، ثم بعث أبرهة رجلاً من الحبشة، على خيل له، حتى انتهى إلى مكة، فساق إليه أموال أهل تهامة، وأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم، - جد النبي -، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها، فعرفت قريش وكنانة وهذيل أنه لا طاقة لهم بجيش أبرهة، فتركوا قتاله، وبعث أبرهة رجلاً إلى مكة، وقال له : سل عن سيد هذا البلد، وشريفهم، ثم قل له : إن الملك يقول : إني لم آت لحربكم، إنما جئت لهدم هذا البيت، فإن لم تعرَّضوا لنا دونه بحرب، فلا حاجة لي بدمائكم، فإن هو لم يرد حربي فأتني به، فلما دخل الرجل على عبد المطلب، قال له ما أمره به أبرهة، فقال : والله ما نريد حربه، وما لنا بذلك من طاقة، هذا بيت الله الحرام، وبيت خليله إبراهيم عليه السلام، فإن يمنعه منه، فهو حرمه وبيته، وإن يخل بينه وبينه، فوالله ما عندنا دفع عنه، فانطلق به وبعض بنيه، حتى أتى العسكر، فقيل لأبرهة : هذا سيد قريش يستأذن عليك، وهو صاحب عير مكة، وهو الذي يطعم الناس بالسهل، والوحوش في رءؤس الجبال، فأذن له أبرهة، وكان عبد المطلب أوسم الناس، وأعظمهم وأجملهم، فلما رآه أبرهة أجله وأكرمه، وأجلسه معه على بساطه، ثم قال لترجمانه : قل له : ما حاجتك ؟ فقال له ذلك الترجمان : فقال : حاجتي أن يرد عليَّ الملك مائتي بعير أصابها لي . فقال أبرهة: لقد كنت أعجبتني حين رأيتك، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني، أتكلمني في مائتي بعير، أصبتها لك، وتترك بيتاً هو دينك، ودين آبائك، قد جئت لأهدمه، لا تكلمني فيه ؟ فقال له  عبد المطلب : إني أنا رب الإبل، وإن للبيت رباً سيمنعه . فقال : ما كان ليمتنع مني . قال : أنت وذاك . فرد عليه إبله . ثم عاد عبد المطلب وأخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش، يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده، وقال :

لاهم إن العبـد يـمـ *** ـنع رحله فامنع رحالـك

لا يغلبـن صلــيبهم *** ومِحالهم أبـداً محالـــك

إن كنت تاركـهم وقبْــ *** ـلتنا فأمر ما بدا لــك

ثم انطلق ومن معه إلى شعف الجبال، ينتظرون ما أبرهة فاعل، فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة، وهيأ فيله، وعبَّى جيشه، وكان اسم الفيل محموداً، فلما وجهوا الفيل إلى مكة، أقبل نفيل بن حبيب حتى قام إلى جنب الفيل، ثم أخذ بأذنه فقال : ابرك محمود، وارجع راشداً من حيث أتيت؛ فإنك في بلد الله الحرام، فبرك الفيل . فضربوه وأسالوا دمه ليقوم، فأبى، فوجهوه راجعاً إلى اليمن فقام يُهرول، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى مكة فبرك، وأرسل الله عليهم طيراً من البحر أمثال الخطاطيف، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار، حجر في منقاره، وحجران في رجليه، أمثال الحمص والعدس، لا تصيب منهم أحداً إلا هلك، وخرجوا يتساقطون بكل طريق، ويهلكون بكل مهلك، وأصيب أبرهة في جسده، وخرجوا به معهم تسقط أنامله، حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطير، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه .بسم الله الرحمن الرحيم ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ...

الخطبة الثانية :

عباد الله : إن لنا  مع هذه القصة دروس وعبر :

منها : أن من الناس من تبهره القوة المادية، فيسيء ظنه بربه، ويبيع دينه لعدوه

ومنها : أن صنائع المعروف، تقي صاحبها مصارع السوء .

ومنها : أن قوة الثقة بالله، واعتقاد أن قوته فوق كل قوة، وتفويض الأمر إليه، مخرج من الفتن، وسلامة من المحن، ووقاية من الشرور .

ومنها : أهمية الدعاء، الذي هو السلاح  في الشدة والرخاء، ولكم في رسولكم أسوة حسنة، فها هو في غزوة بدر يسأل ربه ويناجيه حتى سقط رداؤه، والتزمه أبو بكر وهو يقول : يا رسول الله يكفيك مناشدتك ربك .

ومنها : مهما جاء العدو بقوة وأسلحة فإن ذلك لا يضر إلا بإذن الله، فقد يحولها الله عليه لا له .

ومنها : شدة انتقام الله تعالى وأليم عقابه، لأعداءه ولو بعد حين .

ومنها : أن نوقن بأن الله ناصر دينه، ومعل كلمته، وأننا على الحق، وديننا هو الغالب، وأن الله مولانا، وأن الكافرين لا مولى لهم .

عباد الله : إن سنة الله تعالى جارية، في كل ظالم وطاغية، يريد الفساد في الأرض، ويتعالى على الخلق، وما نشهده في هذه الأيام من تسلط دولة الكفر والطغيان، والفسوق والعصيان، أمريكا لهو دليل بإذن الله تعالى على قرب زوالها؛ وتمزق ملكها، ذلك لأنها تعالت على الباري جل في علاه، فنازعوه في كبرياءه وعظمته، وقالوا : إن حكمة الرب أخطأت عندما جعلت النفط في أرض العرب. واعتدوا على مقام نبيه، وأهانوه وسبوه، ووصموه بالإرهابي، وصوروه بأبشع الصور في صحفهم . وتعالوا على الخلق، فتجبروا وتكبروا، وسفكوا وقتّلوا، وقد كان السلف الصالح بقدر ما يسوؤهم مسبة الرسول ، إلا أن ذلك يكون دليلاً على قرب أجل سابه ومنتقصه؛ إذ لم يتنقصه ويسبه أحد، إلا انتقم الله منه، فهذا كسرى لما تجرأ على رسالته، ولم يراع حرمته، مزَّق الله ملكه، لأنه سبحانه قضى بقطع دابر شانئه، وتعجيل بتره، ونحن نستبشر اليوم، إزاء ما نعلمه من أطماع فاجرة ماكرة، من الصليبية الباغية، والصهيونية الظالمة، ترف حول الأماكن المقدسة، فالله الذي حمى بيته من أهل الكتاب، وسدنته مشركون، سيحفظه من كيد الكائدين، ومكر الماكرين، وأهله موحدون .

فنسأل الله أن يبيدهم، ويرغم أنوفهم، ويخيب سعيهم، ويضل عملهم، ويردهم بشر خيبة، ....