فضل عشر ذي الحجة

بسم الله الرحمن الرحيم

فضل عشر ذي الحجة

الحمد لله:

عباد الله: جعل الله السنة اثني عشر شهراً، وجعل في شهور الأهلة وظائف موظفة، وعبادات محتمة، وخص بعض الأيام والليالي بالفضل على بعض، فجعل ليلة القدر خير من ألف شهر، وجعل أفضل الأيام أيام العشر، وخص منها يومي عرفة والنحر. وما من موسم من هذه المواسم الفاضلة، إلا ولله تعالى فيه وظيفة من وظائف طاعاته، يتقرب بها إليه، ولله فيه لطيفة من لطائف نفحاته، يصيب بها من يعود بفضله ورحمته عليه، فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرب فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات، فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات، فيسعد بها سعادة يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات، فإن المواسم موضوعة لبلوغ الأمل، بالاجتهاد في الطاعة، ورفع الخلل، بالاستدراك والتوبة.

ومن تلك المواسم العظيمة، والأيام الفاضلة، أيام عشر ذي الحجة، فقد تواترت الأدلة من الكتاب والسنة في بيان فضلها، وعظيم مكانتها، وجزيل أجر العامل فيها، وعظم ثوابها، فقد أقسم الله بها في كتابه فقال ﴿وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾ والله تعالى عظيم ولا يقسم إلا بعظيم، وجعلها محلاً لذكره وتعظيمة فقال : ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ﴾ وختم بها أشهر الحج ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ﴾ وشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم  بأنها أفضل أيام الدنيا، وحث على العمل الصالح فيها. ففي (حم) من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال : «ما من أيام أعظم عند الله، ولا أحب إليه العمل فيها، من أيام العشر، فأكثروا فيهن من التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل» وفضَّل صلى الله عليه وسلم العمل الصالح فيها على الجهاد في سبيل الله، فعند (خ) من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال : «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام يعني العشر»، قالوا: يا رسول الله: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشيء».

والأعمال الصالحة المشروعة في هذه العشر كثيرة جداً، فكل عمل صالح في غيرها هو فيها أولى، والتقرب به فيها آكد، ومن الأعمال التي تتأكد في هذه العشر، أو تختص بها، أداء الحج والعمرة، ففي (خ م) من حديث أبي هريرة مرفوعا : «العمْرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة».

ومنها: صيام هذه الأيام العشر أو ما تيسر منها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حث على العمل فيها.

ومنها: التكبير، فإن الله تعالى جعل هذه العشر محلاً، لذكره وتكبيره فقال : ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ﴾. وخصه صلى الله عليه وسلم  بالذكر دون غيره في قوله : «ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد». ويسن جهر الرجال به، إظهارا له، وتذكراً للغافل، وأما النساء فيسرون به.

وإن مما يؤسف له يا عباد الله: هجران هذه السنة، وخفاؤها بين الناس في بيوتهم وأسواقهم، فينبغي للمسلم أن يحيي هذه السنة طلباً للثواب، وابتغاء للأجر.

عباد الله: اعلموا أن مما دلت عليه السنة الصحيحة أن من أراد أن يضحي وجب عليه أن يمسك عن الأخذ من شعره وظفره وبشرته منذ دخول العشر إلى أن يذبح أضحيته، لقوله فيما (م) : «إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره حتى يضحي» وفي رواية «فلا يمس من شعره وبشرته شيئاً».

فاتقوا الله عباد الله: وقدموا في هذه العشر المباركة لأنفسكم، ونبهوا على فضلها من تحت ولايتكم، وتفقهوا في أحكام دينكم، تفوزوا في الدنيا برضا ربكم، وفي الآخرة بكرامته لكم.

الخطبة الثانية:

عباد الله: إن إدراك هذه العشر المباركة، والأيام الفاضلة، نعمة عظيمة، ومنة جليلة، يجب أن يشكرها المسلم، ويقدِّرَها قدرها، وذلك بأن يخص هذه العشر بمزيد عناية، وكثير عبادة، وإن من فضل الله تعالى على عباده كثرة طرق الخير، وتنوع سبل الطاعة؛ ليدوم نشاط المسلم، ويبقى ملازماً لعبادة ربه.

فالله الله باستغلال هذه العشر المباركة، وعمارتِها بطاعة الله تعالى، والحذرَ الحذر من التفريط فيها، والتكاسل عنها، والتسويف فإن سوف مطية إبليس.

وعليكم عباد الله تنبيهُ من تحت ولايتكم من الأبناء والبنات والأزواج بفضل هذه العشر، وأَمْرُهم باستغلالها، وتفقيهُهم في أحكامها، فإن الله سائل كلِّ راع عما استرعاه.

واعلموا عباد الله: إن مما يتأكد في هذه العشر، التوبة إلى الله تعالى، والإقلاعُ عن جميع المعاصي الذنوب، والتخلصُ من مظالم العباد وحقوقهم، والتوبة في الأزمنة الفاضلة آكد؛ لكونها من أسباب قبول الأعمال، وأحرى بالقبول عند الله تعالى.

فليحرص المسلم على مواسم الخير، فإنها سريعة الانقضاء، وليُقَدِّم لنفسه عملاً صالحاً يجد ثوابه أحوج ما يكون إليه، فإن الثَواءَ قليل، والرحيل قريب، والطريقَ مخوف، والاغترارَ غالب، والخطرَ عظيم، والله تعالى بالمرصاد، وإليه المرجع والمآب ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ﴾.

فيا من أعطاك الله صحة وعافية بعد العشرين ، يا من طلع فجر شيبك بعد بلوغ الأربعين ، يا من مضى عليك بعد ذلك ليالي عشر سنين حتى بلغت الخمسين ، يا من أنت في معترك المنايا بين الستين والسبعين، ما تنتظر إلا أن يأتيك اليقين ، يا من ذنوبك بعدد التراب ، أما تستحي من الكرام الكاتبين، فتعود إلى رشدك، وتصدق مع ربك، لعلك تفوز يوم الدين .

إلهي أنت ملاذنا إذا ضاقت الحيل، وملجأنا إذا انقطع منا الأمل، فلا تخيب رجاءنا، ولا تصرف وجهك يوم القيامة عنا، واغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، وأقر أعيننا بصلاح أولادنا وصالح أعمالنا، ولا تؤاخذنا بما كسبت قلوبنا، وجنته جوارحنا، وتوفنا وأنت راض عنا . اللهم طهر قلوبنا من الحقد والحسد، وطهر ألسنتنا من الكذب، وأفئدتنا من الرياء، وأبصارنا من الخيانة، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين .