صلـة الأرحــام

بسم الله الرحمن الرحيم

صلـة الأرحــام

الحمد لله :

عباد الله : ذات يوم عرض أعرابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في سفر، فأخذ بخطام ناقته، أو بزمامها، ثم قال : يا رسول الله ! أخبرني بما يقربني من الجنة، ويبعدني من النار ؟ فكف النبي صلى الله عليه وسلم ثم نظر في أصحابه وقال : «لقد وفق» ، أو قال : «لقد هدي» ثم قال «كيف قلت» ؟ فأعاد الرجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل ذا رحمك» فلما أدبر الرجل، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إن تمسك بما أمرته به دخل الجنة» ( خ م ).

إن صلة الرحم طاعة كاملة، واستقامة واصلة، وسير على السنة، وذكرى حسنة، وأجر كبير، وسبب لدخول الجنة، وسبب لطول العمر، وكثرة الرزق «من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه» «إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة ، فقال الله تعالى: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك، قالت : بلى، قال : فذلك لك» ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اقرؤا إن شئتم ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ﴾. وقال صلى الله عليه وسلم : «يقول الله تعالى : أنا الرحمن، خلقت الرحم، وشققت لها اسماً من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها، قطعته» (د ت حسن صحيح)

عباد الله : ﴿اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ﴾ اتقوا الأرحام، أرهفوا مشاعركم للإحساس بحقها، وتوقي هضمها وظلمها، والتحرج من خدشها ومسها، توقوا أن تؤذوها وتجرحوها، وصلوا ما أمر الله به أن يوصل، صلوا أرحامكم بالزيارات والنفقات، والهدايا والعطايا، صلوهم بالعطف والحنان، والإكرام والاحترام، ولين الجانب وبشاشة الوجه .

عبد الله : من حق أهلك وأرحامك أن تعود مريضهم، وتواسي فقيرهم، وتتفقد محتاجهم، وترحم صغيرهم، وتكفل يتيمهم، تبشُّ بهم عند اللقاء، وتلين لهم في القول، وتحسن لهم في المعاملة، ما بين زيارة وصلة، وتفقدٍ واستفسارٍ، ومهاتفة ومراسلة، تبذل المعروف، في حب وعدل، وإحسان وفضل، وخفض جناح ودعاء.

ولا يقف الأمر عند ذلك، بل إن عليك أن تصلهم وإن جفوا، وتحلم عليهم وإن جهلوا، وتحسن إليهم ولو أساءوا، فقد قال نبيك محمد صلى الله عليه وسلم  «ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل من إذا قَطعتْ رحمهُ وصلها» .

إن من صلة الرحم أن تغفر الهفوة، وتستر الزلة ؛ فأي صارم لا ينبو؟ وأي جواد لا يكبو؟ وما العقل والفضل والنبل إلا إن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، وتحلم على من جهل عليك. ويزداد النبل، ويعظم الفضل، وتسمو النفس، حين تحسن الظن بهم، وتحمل أخطاءهم على المحمل الحسن. وتنظر في عثراتهم نظر العاذر الكريم.

بصلة الرحم تقوى المودة، وتزيد المحبة، وتشتد عرى القرابة، وتضمحل البغضاء، ويحن ذو الرحم إلى أهله. بصلة الرحم تزيد الأعمار، وتعمر الديار وتبارك الأرزاق، وتستجلب السعادة، وتتقى مصارع السوء. النفس الرحيمة الواصلة، الكريمة الباذلة، يورث الله لها ذكرا حسنا في الحياة وبعد الممات، الألسن تلهج بالثناء والأيدي تمتد بالدعاء. تعيش بين الناس بذكرها وذكراها أمداً طويلا، يبارك لها في الحياة، فتكون حافلة بجليل الأعمال، وجميل الفعال، وعظيم المنجزات وكثرة الآثار. من وصل أقاربه أحبه الله وأحبه الناس ووضع له الذكر والقبول. وجبلت النفوس على حب من أحسن إليها، ألم تقل الرحمُ وهي متعلقة بعرش الرحمنِ «من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله» . وقال لها رب العزة في الحديث القدسي: «من وصلك وصلته ومن قطعك قطعته» .

قال علي رضي الله عنه: عشيرتك هم جناحك الذي به تحلق، وأصلك الذي به تتعلق، ويدك التي بها تصول، ولسانك الذي به تقول، هم العدة عند الشدة، أكرم كريمهم، وعُد سقيمهم، ويسر على معسرهم، ولا يكن أهلك أشقى الخلق بك .

ويقول علي بن الحسين رضي الله عنه : يا بني لا تصحبن قاطع رحم، فإني رأيته ملعونا في كتاب الله في ثلاثة مواضع، ومن لم يصلح لأهله لم يصلح لك، ومن لم يذب عنهم لم يذبَّ عنك .

الخطبة الثانية :

عباد الله :  من الناس من ماتت عواطفهم، وغلبت عليهم شقوتهم! فلا يلتفت إلى أهل، ولا يسأل عن قريب، ولا يود عشيرة، إن قربوا أقصاهم، وإن بعدوا تناساهم، بل يبلغ به اللؤم أن يقرب أصحابه وزملاءه، ويجفوا أهله وأقرباءه، يحسن للأبعدين، ويتنكر للأقربين، بطون ذوي رحمه جائعة، وأمواله في الأصدقاء والصِحاب ضائعة. تراه يحاسب لهفوة صغيرة، ويقطع رحمه لزلة عابرة، إما بسبب كلمة سمعها، أو وشاية صدقها، أو حركة أساء تفسيرها.

إن من الناس من لا ينظر إلى والديه اللذين أنجباه إلا نظرة احتقار وسخرية، يكرم امرأته، ويهين أمه ! يقرب صديقه ويبعد أباه، إن جلس إلى والديه، فكأنما على جمر، يستثقل الجلوس، ويستطيل الزمن ! لا يخاطبهما إلا ببطء وتثاقل، ولا يفضي لهما بسر، قد حرم نفسه لذة البر، وعاقبته الحميدة .

معاذ الله عباد الله ربما كان بين الإخوة والأقارب من القطيعة ما يستحقون به لعنة الله من فوق سماواته ! وتحل بهم النقمة، وتزول عنهم النعمة ﴿وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ﴾ .

 فصلوا أرحامكم ولو قطعوكم، وستكون العاقبة لكم عليهم، فقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عليهم ويجهلون علي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إن كنت كما قلت، فكأنما تسفهم الملَّ – أي الرماد الحار – ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك». وقال : «لا يدخل الجنة قاطع » .

فيا عباد الله : يا من آمنتم بالله رباً وبالإسلام ديناً وبرسوله محمد نبياً ، انظروا في حالكم، وانظروا في أقاربكم، هل قمتم بما يجب لهم عليكم من صلة ؟ هل ألنتم لهم الجانب ؟ هل أطلقتم لهم الوجوه  ؟ وشرحتم لهم الصدور ؟ هل زرتموهم في صحتهم تودداً ؟ وهل عدتموهم في مرضهم احتفاء وسؤالاً ؟

وما المرء ولا المروءة إلا رحم موصولة، وحسنات مبذولة، وهفوات محتملة، وأعذار مقبولة.

فاتقوا الله ـ رحمكم الله ـ واستعينوا بالله على مرضاته واستمسكوا بآداب شريعته تولانا الله جميعا في أنفسنا وذوينا ومحبينا، وأعاننا على امتثال أمره وطاعته واتباع نبيه بمنه وكرمه.