الموقف من الفتن

بسم الله الرحمن الرحيم

الموقف من الفتن

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، و بعد:

عباد الله : فتن عظيمَة تنوَّعت أسبابُها، واختلفت مقاصدُها، وتعدّدت مصادِرها. فتنٌ في الدّين والعقيدَة، في السّياسة والإدارَة، في الأولاد والأعرَاض. فتنٌ تحسنَ القبيح، وتقبيحَ الحسَن، تزخرِف الباطلَ وتروِّج له، وتحاوِل مَحوَ الحقّ وإبعادَ الناسِ عنه، ديدنُها الهدْم والتخريبُ، والنهب والتحريش . فتنٌ تعاظمَ اليومَ خطَرها، وتطايَر شررها، وتزايَد ضررُها. فتنٌ نالت من جزئيّات الدين وفروعه، إلى أركانِه وأصولِه . فتنٌ تُسبِّب الشكَّ عند بعضِ المسلمين، في ثوابتِ دينهم، ومسلمات شريعتِهم، وتُسبِّب الحيرةَ لكثيرين، والانحرافَ لآخرين .

عباد الله : إنَّ الفتنَ يصيبُ ضررُها الجميعَ، ويكون معَها الشرّ والفساد،ُ للبلادِ والعباد، إذَا لم تعالَج بميزان الشّرع، ولم يَحكُمِ الناس أنفسَهم بتعاليمه، ويوقفوها عند حدودِه، ولم يراعوا الأمورَ حقَّ رعايتِها، وينظروا للنَّوازل والمدلهمّات بما يعالِج أضرارَها، ويرفَع آثارَها، لذا جاءَت تحذيراتُ الشّرع من الفتنِ، ومن غوائلِها وشرورِها، يقول جلّ وعلا: ﴿وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً﴾ قال ابن كثير : "هذهِ الآية وإن كان المخاطَب بها هم صحابة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم لكنَّها عامّة لكلِّ مسلم؛ لأنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يحذِّر من الفتَن" .

عباد الله : إنَّ الشريعةَ الإسلاميّة، قد ضمنت للأمّة ما يقيها شر الفتن، وما يضمَن الحصانةَ لدفعها قبل وقوعِها، ولرفع أضرارِها وآثارِها بعدَ حُلولِها.

و من ذلك : الابتعاد عن مواطِن الفتَن، ومجانبة أسبابها، والفِرار عن مواقعِها، فنبيّنا صلى الله عليه وسلم يقول: «يوشِك أن يكونَ خيرَ مالِ المسلم غنمٌ يتبعُ بها شعَف الجبال، ومواقِعَ القطر؛ يفِرّ بدينه من الفتن» (خ) ويبيِّن صلى الله عليه وسلم عظيمَ خطَر الفتَن، ويَحثّ على اجتنَابها والهرَب منها، وأنّ شرَّها وضررَها يكون على حسَب التعلّق بها، فيقول صلى الله عليه وسلم: «ستَكون فتنٌ القاعدُ فيها خيرٌ من القائِم، والقائم خيرٌ من المَاشي، والمَاشي فيهَا خير من السَّاعي، من تَشرَّف إليها تستَشرِفه، ومن وجَد فيها ملجأً أو معاذًا فليعُذ به» (م) .

ومنها: الاعتصامُ بالكتاب والسنّة، فالاعتصام بهما يحقِّق للأمّة النجاةَ من كلّ شرٍّ وانحرَاف «يا أيّها النّاس، تركتُ فيكم ما إن تمسكتُم به لن تضلّوا بعدي أبداً: كتابَ الله وسنّتي» يقول شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والإنسانُ في نظَره مع نفسِه، ومناظرتِه لغيره، إذا اعتصَم بالكتابِ والسنّة،هداه الله إلى الصّراط المستقيم "أ.هـ 

فلا المنطق، ولا العقول البشرية، ولا التحليلات السياسية، ولا  التوقعات الاقتصادية، ولا التنبؤات الخرافية، ولا التغطيات الإعلامية، بل كتاب الله، وسنة رسول الله، ويتأكد ذلك عندما تدلهم الفتن، وتكثر المحن .

ومنها: أن يلزَم المسلمُ جماعةَ المسلمين وإمامَهم، فربّنا جلَّ وعلا يقول: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً﴾ خرجَ (م) «ثلاثُ لا يغلّ عليهنّ قلبُ مسلم : إخلاصُ العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم الجماعة، فإنَّ دعوتَهم تحيط من ورائِهم» يقول شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله بعدَ أن ذكر هذه الخصالَ الثلاث: "لم يقَع خللٌ في دين الناس ودنيَاهم، إلا بسببِ الإخلال في هذه الثلاث " .

ومنها: تحلّي المسلم بالصّبر حالَ الفتَن، فهو سمَةٌ تمنَع الشخصَ عنِ القيام بأعمالٍ لا تُحمَد عقباها، والتمثّل بِه، فيه السلامةُ بِإذن الله من غوائِل الانحرافاتِ، وشرور الفتَن والمدلهِمَّات، بل الصبرُ يطفِئ كثيراً من الفتن، وانعدامُه يشعِل نارَها، فتتقابَل الأحقَاد، وتَثور الفتنَة، وتُسَلُّ السيوف، وتُسفَك الدّمَاء، والله جلَّ وعلا يقول ﴿ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَوةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّـابِرِينَ﴾ قال شيخ الإسلام: "ولا تقَع فتنةٌ إلا مِن تَرك ما أمَر الله، فإنّه سبحَانه أمر بالحَقّ، وأمر بالصّبر، فالفتنَة إمّا من ترك الحقّ، وإمّا مِن ترك الصبر" .

الخطبة الثانية :

ومن ذلك عباد الله: أن الواجب على عامّة المسلمين، رعايةُ حقِّ العلمَاء، ومعرفةُ فضلهم وسؤالهُم ، فاهتداءُ المرءِ موكولٌ باعتصَامه بالوحيَين، واعتصامُه بهما موكولٌ باقتدائه بأهلِ العلمِ، ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ

فالواجب رجوعُ الناسِ إلى علمائِهم الربانيّين، المعروفين بالاعتقادِ الصحيح،والمسلَك القويم، والنّصح والدراية، والأخذ عنهم، وتحرّي أقوالهم، والوقوف عندَ آرائهم، ﴿وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِى الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ فالواجبُ على المسلم أن يعلمَ أنّه ليسَ كلّ ما يقال أو يُفعل ، يكون سائغاً وقتَ الفتنةِ وظهورها، بل لا بدّ مِن مراعاة العواقِب، ففي البخاري قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: «لولا أنَّ قومَك حديثو عهدٍ بكُفر لهدمتُ الكعبة، ولبنيتها على قواعدِ إبراهيم» (خ) .

ومنها: الحذَرُ من الوقوع في اليَأس، وقطعُ الأمَل والرجَاء في تحقيقِ المطلوب ،وذهابِ المرهوب، فليحذَر المسلمون من أن يقطَعوا أمَلَهم في ارتفاع ما يصيبهم، ﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139) إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ .

فلا يأسَ ولا قنوطَ عندَ مَن صَدَق مَع الله جلّ وعلا، وحقَّق الإيمانَ به وبرسولِه صلى الله عليه وسلم مع الأخذِ بالأسباب المَأمور بها ﴿وَكَأَيّن مّن نَّبِىّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّـابِرِينَ﴾ .

فاللهَ اللهَ عباد الله، كونوا وقتَ الفتن ـ وفي كلَّ حين صادقين في إيمانكم، أقوياءَ في إسلامكم، مرضين لربكم، متَّبعين لسنة نبيكم، واصدُقوا مع الله، أروا اللهَ من أنفسِكم خيرًا، بدِّلوا وغيِّروا، اخضَعوا له والتَجئوا، وعليه توكّلوا، وبه ثِقوا .

و لقد علمتم بما حل بإخواننا في العراق، من الغزو الغاشم، والطغيان الظالم، الذي تتولى كبره أمريكا . فشردتهم من ديارهم، وأبدلتهم بعد أمنهم خوفا، وهذا منذر بسيل عذاب قد انعقد غمامه، وبليل بلاء قد ادلهم ظلامه، إلا أن يتداركنا الله برحمته .