العجلة وآثارها

بسم الله الرحمن الرحيم

العجلة وآثارها

الحمد لله

عباد الله: خرج (خ، م) من حديث عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد، فقال: «لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال؛ لتأمره بما شئت فيهم، قال: فناداني ملك الجبال وسلم علي ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبي، فقال صلى الله عليه وسلم : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئاً».

عباد الله: إن نبينا في فعله هذا كان مقتفيا ومهتديا بأمر ربه جل وعلا له ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ﴾ فكان صلى الله عليه وسلم وهو القدوة المثلى، أولى الخلق التزاماً بهذا الأمر. وقال تعالى ﴿لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ﴾ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم  خلقه القرآن، يتخلق بأخلاقه، ويتأدب بآدابه، لذلك التزم بهذا التوجيه المبارك، فلم يكن يستعجل، بل كان يتأنى ويصبر،وإلى هذا أرشد أمته.

عباد الله: إن العجلة في الأمور التي ينبغي التريث فيها، من الصفات المذمومة، التي جاء الشرع بالنهي عنها. قال الراغب الأصفهاني: "العجلة طلب الشيء وتحريه قبل أوانه، وهو من مقتضى الشهوة، فلذلك صارت مذمومة في عامة القران، حتى قيل: العجلة من الشيطان" أ.هـ

ومن الأمثلة على العجلة المذمومة: الاستعجال بالدعاء على الأهل والمال والولد عند الغضب، قال تعالى: ﴿وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً﴾.

وعند (م) من حديث جابر وفيه : أن رجلا من الأنصار أناخ ناضحا له، فركبه ثم بعثه، فتلدن عليه بعض التلدن – أي تلكأ ولم ينبعث -، فقال له : شأ لعنك الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «من هذا اللاعن بعيره؟» قال أنا يا رسول الله، قال «أنزل عنه، فلا تصحبْنا بملعون، لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أموالكم، ولا تدعوا على أولادكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم».

ومنها استعجال المرء إجابة دعائه ففي (خ م) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي  صلى الله عليه وسلم قال: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول:  قد دعوت  فلم يستجب لي».

ومنها استعجال بعضِ المصلين في صلاتهم، فلا يُتمون ركوعها ولا سجودها، ولا يطمئنون فيها، وقد جاء في (خ م) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً صلى عند النبي  صلى الله عليه وسلم  فقال له «ارجع فصل فإنك لم تصل، ثلاث مرات في كل مرة يقول له ذلك». ثم قال له: «إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً  ثم ارفع حتى تعتدل قائماً ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً..» الحديث.

عباد الله: العجلة المذمومة، هي القطع في الأمور قبل التفكر والمشاورة والاستخارة، ولهذا قال ابن حبان البستي - رحمه الله -: إن العَجِل يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهم، ويحمد قبل أن يجرب، ويذم بعد ما يحمد، والعَجِل تصحبه الندامة،  وتعتزله السلامة، وكانت العرب تسميها أم الندامات أ. هـ

قد يدرك المتأني بعض حاجته *** وقد يكون مع المستعجل الزلل

أما المسارعة إلى فعل الخيرات، والمبادرة إليها، وانتهاز الفرص إذا حانت، فإن ذلك محمود وليس بمذموم. قال تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾. وقال موسى عليه السلام: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾. وقال صلى الله عليه وسلم «ما تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر» وقال صلى الله عليه وسلم «السفر قطعة من العذاب، فإذا قضى أحدكم نهمته من وجهه، فليعجل إلى أهله».

الخطبة الثانية:

عباد الله:

ومن صور الاستعجال المذموم: استعجال بعض الناس في أمور الطلاق، فتجدها لفظة دارجة على لسانه، يطلق الرجل زوجته، فتتشتت الأسرة، ويضيع الأطفال، وتهدم البيوت، ويقع من الهم والغم ما الله به عليهم.

وكم من أبٍ استعجل في زواج ابنته دون تريث وتثبت، فسام الزوجُ ابنته سوء العذاب.

وكم من شاب استعجل  تحصيل لذته، فوقع في فاحشة الزنى واللواط، فكان عاقبة أمره خسراً، وكان ذلك سبباً في غَرَقِه في مستنقع الرذيلة والأمراض.

وكم من مغرور بقوته أوقعه الشيطان في شراكه، فأوقعه في شجار نتج عنه عاهة مستديمة، أو جراحة أليمة، أو سجن طويل، وربما وصل الأمر إلى الموت. وكم من الحوادث المروعة التي كانت سبباً لإزهاق أنفس كثيرة، وأمراض خطيرة، وعاهات مزمنة، وما ذاك إلا بسبب العجلة. كم من شاب  تحمس بتشجيع أصحابه فسابق الموتَ بسيارته، فكان الموت أسرع منه. 

وكم من مستبطئ للرزق،  فيطلبه من طرق محرمة، ووجوه غير مشروعة، وفيما يروى عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال  صلى الله عليه وسلم  «إن روح القدس نفث في رُوعي أن نفساً لن تموت حتى تستكمل أجلها، وتستوعب رزقها، فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب، ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق، أن يطلبه بمعصية، فإن الله تعالى لا يُنال ما عنده إلا بطاعته».

ومنها الاستعجال في نتائج الدعوة إلى الله، فإن البعض يستعجل نتيجة جهوده، وربما غلبه اليأس حتى يتخلى عن هذا الطريق.

ومنها الاستعجال في الفتوى، فالجرأة على الفتوى، والخوض في أمور الشرع بلا علم، لم تعد قاصرة على أنصاف المتعلمين فحسب، حتى نصب بعض العامة أنفسهم مفتين، بل تعدى الأمر إلى السفهاء، وبعض الصحفيين والإعلاميين!

ومنها الاستعجال في الحكم على الأشخاص، وتبديعهم أوتفسيقهم أوتكفيرهم.

ومنها التحديث بكل ما يسمع الإنسان «وكفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع» فما أسرع سريان الإشاعات، وما أفتك أثر الدعايات، خبر تتناقله الأنباء والوكالات، ويصبح حديثَ المجالس والمناسبات، وإذا تأمل المحققون، ودقق المتحرون، وجدوه كخبر موت شارون. إشاعات باطلة، ونقل بلا تثبت.

والمصطفى صلى الله عليه وسلم  يرشد أمته ففي (خ م) عن عائشة رضي الله عنها قالت استأذن رهط من اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا السام عليك، فقلت بل عليكم السام واللعنة، فقال صلى الله عليه وسلم  بأبي هو وأمي: «يا عائشة، إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله»، قلت أو لم تسمع ما قالوا؟ قال «قلت وعليكم»، وقال: «إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه»

بل يؤكد  صلى الله عليه وسلم أن الرفق والأناة سبب لكل خير فيقول كما عند (م) «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه» ويحذر صلى الله عليه وسلم من فقد الرفق، فيقول كما عند (م) أيضا من حديث جرير بن عبد الله «من يحرم الرفق يحرم الخير»

عباد الله: وتشتد الحاجة للرفق حين تستأثر المشاعر، فتحتاج إلى التهدئة والتسكين، وحين تشعر النفوس بالضيم، فتتطلع للانتصار، وحين يشيع المنكر، فترتفع أسهم الغيرة لدين الله، فحين ذاك يجب أن تضبط التصرفات، بميزان صريح النقل، وأن  تحكم بصحيح العقل، وأن  تحلى بالحلم، وأن تجمل بالرفق، وعلى المسلمين أن يعلموا ؛ أن الاستفزاز قديم، وأن العاقبة للمتقين. ولا يعني الحلم تبلد الإحساس، ولا موت المشاعر، ولا إضاعة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولا القعود عن نصرة المظلومين، والبراءة من الكافرين، ولكنه تريث وتعقل في الحركات، وتأنٍ في التصرفات، ونظر محمود في العواقب، وتقدير للمصالح والمفاسد، إنه كبح جماح النفس والهوى، واستشارة لألي الأحلام النهى، ووقوف عند أقوال العلماء.