شكر النعم ، وأسباب عودتها بعد زوالها

بسم الله الرحمن الرحيم

شكر النعم

وأسباب عودتها بعد زوالها

الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علما، وقضى بما يريد حكمة وحكما، أنعم بالنعم ابتلاء وامتحانا ، فمن شكر فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فإن الله غني حميد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أفضل الرسل ، وخلاصة البشر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان على الرشد والتسديد، وسلم تسليما كثيرا أما بعد :

عباد الله : أوصيكم ونفسي بتقوى الله ، استيقضوا بقوارع العِبَر، وتفكروا في حوادث الغِيَر، ففي تقلبات الدهر معتبر، وفي طوارق الأيام مزدجر، وقيدوا نعم الله عليكم بشكرها، وحسن التصرف فيها فإن بالشكر ازدياد النعم، وبحسن التصرف فيها، تتمحض المنن، أما إذا كفرت فذلك سبب زوالها ، ومعول هدمها ، قال جل وعلا : ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ .

 بدلوا نعمة الله كفرا ، فأعرضوا عن دين الله ، وارتكبوا محارمه ، فأبدلهم بنعمه نقما ، وبرغد العيش نكدا ، أفتظنون أنكم إذا كفرتم بنعم الله ناجون ؟ ومما وقع لألئك مسلَّمون ؟ كلا فسنن الله في عباده ثابتة ﴿فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً﴾ عباد الله : تفكروا في عظم نعم الله عليكم ، وأجل تلك النعم وأعظمها : نعمة الإسلام ، فكم يعيش على هذه الأرض ، من أمم حُرمت شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ﴿وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ .

ثم احمدوا الله على نعمة الهداية والتوفيق للسنة ، فكم ممن ينتسب إلى الإسلام ، وهم مخالفون لتعاليمه ظاهراً وباطنا ، مفرطون في الواجبات ، غارقون في الآثام والمخالفات ، وأنتم يا عباد الله : تتقلبون في نعم الله عز وجل ، أمن في الأوطان ، وسعة في الأرزاق ، وصحة في الأبدان ، فعليكم واجب الشكر بالقول والعمل ..

عباد الله : إن النعم لا تزول إلا إذا أخللنا بالقيام بما يجب علينا من حقها، وهو الشكر، فإن كل نعمة لا تشكر جديرة بالزوال . ومن كلامهم : النعمة إذا شكرت قرت، وإذا كفرت فرت . وقيل : لا زوال للنعمة إذا شكرت، ولا بقاء لها إذا كفرت . ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ .

وقد ذكر بعض أهل العلم أن ربنا جل وعلا وعد بالمزيد مع الشكر ولم يستثن فيه، واستثنى في خمسة أشياء : في الإغناء ﴿فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ﴾ وفي إجابة الدعاء ﴿فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَاءَ﴾ وفي الرزق ﴿يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ﴾ وفي المغفرة ﴿وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ﴾ وفي التوبة ﴿ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاءُ﴾. ولكنه قال في الشكر ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ﴾ . والشكر يا عباد الله، يكون بالقلب، واللسان، والأفعال .

أما القلب وهو أعظمها، فالمراد منه : أن تعلم وتعتقد أن الله وحده هو الذي منحك النعمة، لا أحد سواه يشاركه، فتشكره وحده عليها، ولا يتعارض ذلك مع ما جاء في (د ، ت) من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يشكر الله من لا يشكر الناس» فإن ذلك ورد لكون الله تعالى أجرى النعمة على يديه، فيكون شكرك إياه داعياً له إلى أن يزيد من فعل الخير .

وأما اللسان، فالمراد منه حمد الله تعالى عليها والتحدث بها، لقوله تعال ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ فيتحدث بها لا لرياء وسمعة وخيلاء، بل للثناء على الرب تبارك وتعالى . وروي أن وفداً قدموا على عمر بن عبد العزيز فقام شاب ليتكلم، فقال عمر : الكُبْرَ الكُبْرَ، فقال : يا أمير المؤمنين، لو كان الأمر بالسن لكان في المسلمين من هو أسنُّ منك، فقال : تكلم، فقال : لسنا وفد الرغبة، ولا وفد الرهبة، أما الرغبة فقد أوصلها إلينا فضلك، وأما الرهبة فقد آمننا منها عدلك، وإنما نحن وفد الشكر، جئناك نشكرك باللسان .

وأما الأفعال، فالمراد منها امتثال أوامر المنعم، واجتناب نواهيه ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا﴾ وهذا يخص كل نعمة بما يليق بها، فلكل نعمة شكر يخصها، وجماعها أن تستعمل نعم الله في طاعته، وتتوقى من الاستعانة بها على معصيته، ثم اعلموا أن ذلك بقضاء الله وقدره، وإرادته واختياره . وقضاؤه لك، خير من قضائك لنفسك، وكم من محنة في طيها نعمة، لا يدريها إلا من يعلم العواقب . وعند زوال النعم هناك ما تسلكه حتى تعود بإذن الله تعالى، وهو أن تعرف من أين أُتيت فتتوب، وأن تعرف ما في المحنة من الفوائد، فترضى بها، والثالث أن تتضرع إلى الله تعالى يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : "من ابتلي ببلاء قلبي أزعجه، فأعظم دواء له قوة الالتجاء إلى الله، ودوام التضرع والدعاء، بأن يتعلم الأدعية المأثورة، ويتوخى الدعاء في مكان الإجابة" .

الخطبة الثانية :

عباد الله : إن من نعم الله العظمى، ومننه الكبرى، التي تستوجب الشكر و اغتنام الفرصة الكبرى، بما يكون سبباً للفوز بدار القرار، والنجاة من النار . أن يمدَّ في أعماركم ، ويمن عليكم بإدراك الشهر العظيم ، فكم غيَّب الموت من صاحب ؟! وكم وارى الثرى من حبيب ؟!

واعلموا عباد الله : أنكم على أبواب موسم عظيم ربحه ، ولا يتيسر لتجَّار الآخرة في العام إلا مرة واحدة ، موسم من اتجر فيه مع مولاه الكريم ، كان ربحه أن يعتق رقبته من النار ، ويغفر له ما تقدم من الذنوب والأوزار، موسم من صدقت فيه نيته ، وطابت سريرته ، وتهذبت بالصيام نفسه ، وصان عن اللغو والفحش صيامه ، وكف عن الحرام فرجه وعينيه ،ولسانه وأذنيه ، فكان صابراً متواضعا ، تقياً وفيا ، صادقاً أمينا . على البؤساء عطوفا ، وبالضعفاء رحيما ، نال من الله جزيل الإحسان ، وجميل الرضوان .

فشمر يا عبد الله : في هذا الموسم عن ساعد الجد ، واجعل صالح الأعمال بضاعتك ، والتواضع شعارك ، والحلم واللين شيمتك ، والرأفة والرحمة حليتك ، فالسعيد من اتجر فيه بمرضاة المنان ، والشقي من خرج منه بالخيبة والخسران . فلا إله إلا الله !! ما أبعد ما بين الفريقين ؟ وشتان ما بين أولياء الرحمن ، وأولياء الشيطان ! هؤلاء في طاعة ربهم يتقلبون ، وأولئك عند مزامير الشيطان يلعبون . (ت) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «رغم أنف امرئ دخل عليه رمضان ثم انسلخ ولم يغفر له» .

ألا فليكن رمضان فرصةً لنا للنظر في الأحوال، والتفكر في الواقع، لنصلح ما فسد، ونعالج ما اختلّ . لِيكن هذا الشهر انطلاقةَ خير نحو مستقبل مشرق، ونقطةَ تحوّل إلى أحسن الأحوال، وأقوم الأقوال والأفعال .

عباد الله : هاهو رمضان ينادي : يا باغي الخير أقبل ، ويا باغي الشر أقصر ، فاغتنموا أيامه ولياليه ، دقائقه وثوانيه ، انتبهوا فقد لا يعود ، إلا وأنتم باللحود ، قد نهش وجوهكم الدود . فهل عزمتم فيه على التوبة ؟ هل قررتم العودة والأوبة ؟ هل نويتم التخلص من جميع المعاصي والمنكرات ؟