الشفاعة الحسنة

بسم الله الرحمن الرحيم

 الشفاعة الحسنة

الحمد لله

عباد الله: إن من أعظم الأصول فتحا للخيرات، وإغلاقا للشرور والنكبات، الإيمان التام بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإذا آمن العبد به إيمانا تاما، وفهم كلامه ومراده، تحقق ما قاله قطعاً، وعلم أن ما ناقض ذلك أو خالفه فإنه باطل، فماذا بعد الحق إلا الضلال. ولا ريب أن الناس في الخير والشر درجات، ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا﴾ وأن أعلاهم درجة من سعى في الخير لنفسه ولغيره، كما أن أسفلهم من هو بعكس ذلك.

وإن من أهم القربات التي رتب الله تعالى عليها الأجر العظيم، والثواب العميم، قضاء حوائج الناس، والسعي في تمامها، والشفاعة فيها ﴿مَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا﴾.

وفي (خ) من حديث أبي موسى : «اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء».

وعند (خ م) من حديث ابن عمر «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة».

وعند (م) عن أبي هريرة : «من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه».

فينبغي للعبد أن يكون مباركاً على نفسه وعلى غيره، باذلا وسعه في الدعوة إلى الخير والترغيب فيه بالقول والفعل والتحذير من الشر بكل طريق، لا يحقرن من المعروف شيئاً.

عباد الله: إن من مفاتيح الخير، بل من أعظم أنواع الشفاعة أجراً، الشفاعة لضعفاء المسلمين، أولئك المساكين الذين ليس لهم حظ من المنصب أو الجاه والسمعة، ممن هو أهل لذلك العمل، ولا يعني هذا تقديمه على من هو أحق منه.

في (خ) صلى الله عليه وسلم قال: «هل تنصرون إلا بضعفائكم».

واعلموا أن أجر الشافع - إذا أحسن النية – متحقق له حتى ولو ردت شفاعته؛ لأن الله تعالى، رتب الأجر عليها ﴿مَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا﴾. ويؤكده قوله صلى الله عليه وسلم : «اشفعوا تؤجروا».

يأتي أحدهم لإدراك عمل أو وظيفة فيطرق كل باب، ويستعطف كل أحد، فلا يؤبه به، ولا يلتفت إليه. بينما لو كان أحد أهل الجاه والمال، أو الحسب والنسب، لأُظهر له الخدمة، بل والتشرف بذلك، وقضاء حاجته دون تردد أو تضجر، فيا سبحان الله !! أين أداء الأمانة ؟! أين الاحتساب والأجر؟ كان الرجل في الجاهلية إذا استجار به صاحبه أو رجل غريب، أجاره وقام بقضاء حاجته، ويعد ذلك شهامة ورجولة، بل وينتقصه رجال قومه لو فرط فيها، فأين أولئك الذين وُظفوا لقضاء حوائج الناس، ومع ذلك يجعلون مصالحهم الشخصية فوق كل مصلحة، ولو كانت مصلحة عامة. بل قد تبلغ الخيانة بأحدهم أن يقدم شخصاً فيه موانع يتعذر بها قبوله، ويرد العشرات غيره كلهم مؤهل لذلك العمل.

 عباد الله: إن شأن المسئولية عظيم، وكل مسائل عن مسئوليته، فعلى من رزقه الله منصبا وسلطة، أن يتق الله، وأن يراقبه في جميع شئونه، وليحذر من استغلال نفوذه في ما لا يرضي الله تعالى، من أجل محاباة قريب أو صديق، وليعلم أن ذلك من الخيانة والغش للمسلمين ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ﴿فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾ ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ﴾ .

وعند (م) من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به».

فليتق الله من كان هذا شأنه، وليخش عقوبة الله تعالى، فكم من دعوة مظلوم فرقت بين المرء وولده، وبين المرء وزوجه، وكم من دعوة مظلوم جعلت حياة الظالم شقاء، وصحته سقما، وغناه فقراً. فأدوا الأمانة عباد الله: فإنكم عنها مسئولون، وعلى حسب القيام بها أو التفريط فيها مجزيون، فإما مغتبطون بها مسرورون، وإما نادمون في إضاعتها حزنون.

اللهم اجعلنا ممن رعى أمانته وعهده، واجتهد في ذلك خشية لربه.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رفع السماء ووضع الميزان، أمر بإقامة الوزن بالقسط ونهى عن خسران الميزان، أمر بالعدل والإحسان، ونهى عن الظلم والعدوان، و صلى الله وسلم وبارك على نبيه ومصطفاه، وخير خلقه محمد بن عبد الله، وآله وصحبه ومن والاه...  أما بعد:

عباد الله: لقد خلق الله الخلق وغاير فيما بينهم، فمنهم المحسن، ومنهم المسيء، ومنهم من هو بين ذلك، كما قال سبحانه ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ﴾.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فكونوا رحمكم الله مفاتيح للخيرات، مغاليق للشرور والآفات، فمن كان منكم مخلصا لله، ناصحا لعباد الله، ساعيا في الخير بحسب إمكانه، فذاك مفتاح للخير حائز للسعادة، الذي إذا اجتمع بالناس في مجالسهم حرص على إشغالهم فيما ينفعهم في دينهم ودنياهم، ومنهم من يشغلهم بما يضر وما لا يغني، فهذا قد حرمهم الخير وأشقاهم، ومنهم من يسعى في تقريب القلوب وجمع الكلمة والائتلاف، ومنهم من يسعى في إثارة الفتن والشقاق والتنافر والخلاف، ومنهم من يجتهد في قلع ما في قلوبهم من البغضاء، ومنهم من يلهب في قلوبهم الشحناء، ومنهم من يحث على الجود والكرم والسماحة، ومنهم من يدعو إلى البخل والشح والوقاحة، ومنهم من يتنوع في فعل المعروف في بدنه وقوله وماله، ومنهم من لا يعرف المعروف ولو قل، فلا تسأل عن سوء حاله، ومنهم من مجالسه مشغولة بالغيبة والنميمة والوقيعة في الناس، ومنهم من ينزه نفسه عن ذلك وينزه الجلاس، ومنهم من تذكر رؤيته بالله، ويعين العباد في مقاله وحاله على طاعة الله، ويأمرهم بالقيام بالحقوق الواجبة والمسنونة، ومنهم المثبط عن الخير، وأحواله غير مؤمونة، ومنهم اللئيم، ومنهم المبارك على من اتصل به، وهذا داع إلى كل خلق ذميم، وهذا مفتاح للبر والتقوى، وطرق الخيرات، وهذا مغلاق لها، ومفتاح للشرور والآفات، وهذا مأمون على النفوس والأعراض والأموال، وهذا خائن لا يوثق به في حال من الأحوال، وهذا قد سلم المسلمون من لسانه ويده، وهذا لم يسلم منه أحد، وربما سرت أذيته إلى أهله وولده، فتبارك الذي فاوت بين العباد هذا التفاوت العظيم، فهذا كريم مع الله ومع خلقه، فتعالوا عباد الله: نتعاون على الخير، نبر كبيرنا، ونرحم صغيرنا وضعيفنا، وينصح الواحد منا أخاه بالحسنى لكي تتم النعمة، ويتماسك المجتمع، وتستقيم أخلاقنا وينتشر الخير والبر ونفوز برضوان الله.