الاعتبار بما يحدث في الأمصار

بسم الله الرحمن الرحيم

الاعتبار بما يحدث في الأمصار

الحمد لله يرفع البلاء، ويدفع العداء، ويكشف اللأواء، ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم،، أما بعد:

عباد الله: لقد أجرى الله أمور عباده منذ أن خلقهم على التقلب بين شدة ورخاء، ورغد وبلاء، وأخذ وعطاء، فسبحانه من إله علم عواقب الأمور، وصرف الدهور، فمنع وأعطى، ومنح وامتحن، فجعل عباده بين خير وشر، ونفع وضر، ولم يجعل لهم في وقت الرخاء أحسن من الشكر، ولا في أيام المحنة والبلاء أنجع من الصبر، فطوبى لمن وفق في الحالين للقيام بالواجبين، فشكر عند السراء، وصبر عند الضراء، وابتهل إلى الله عند كلا الحالين بالتضرع والدعاء.

عباد الله: اعلموا أن الله تعالى لا يخلق شراً محضاً، فكم من شر في نظر الناس، يحمل في طياته خيرا كثيرا، والله يعلم وأنتم لا تعلمون، فقد يبتلي الله عباده؛ لتستيقظ النفوس الغافلة، وتلين القلوب القاسية، وتدمع العيون الجامدة، يريهم بعض آياته لعلهم يرجعون ﴿وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ ﴿كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ ﴿وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ وإن الله يبتليهم بشيء من الضراء، لئلا يتمادوا في الطغيان، ويغرقوا في العصيان ﴿فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ﴾ فإن لم يرجعوا عن غيهم، ويتوبوا من إعراضهم عن أوامر ربهم، زاد الله في نعيمهم وجعلهم يتقلبون فيه، حتى تزيد غفلتهم وإعراضهم، فيأخذهم على غرة، عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب، فإنما هو استدراج، ثم تلا قوله تعالى ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ﴾» ﴿أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ﴾ ﴿أَفَأَمِنُوا أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ ﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الخَاسِرُونَ﴾.

عباد الله: يقول العلامة ابن القيم: "تأمل خلق الأرض على ما هي عليه حين خلقها واقفة ساكنة، لتكون مهادا ومستقرا للحيوان والنبات والأمتعة، ويتمكن الناس من السعي عليها في مآربهم، والجلوس لراحتهم، والنوم لهدوئهم، والتمكن من أعمالهم، ولو كانت رجراجة متكفئة لم يستطيعوا على ظهرها قرارا ولا هدوءا، ولا يثبت لهم عليها بناء، ولا أمكنهم عليها صناعة ولا تجارة، وكيف يتهنون بالعيش والأرض ترتج من تحتهم؟ واعتبروا بما يصيبهم من الزلازل على قصر وقتها كيف تضطرهم إلى ترك منازلهم والهرب عنها؟ وقد نبه الله إلى ذلك بقوله ﴿وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ وقد يحدث الله فيها الزلازل العظام؛ ليحدث من ذلك لعباده الخوف والخشية، والإنابة والإقلاع عن معاصيه، والتضرع إليه والندم" أ.هـ

عباد الله: لقد كثرت الزلازل المروعة التي أهلكت الإنسان، ودمرت العمران، وقد تتابع وقوع ذلك في سنين متقاربة، ومنها ما تسمعون في هذه الأيام القريبة، كم تسمعون من الحوادث وتشاهدون من العبر؟ حروب في البلاد المجاورة، أتلفت أمما كثيرة، وشردت البقية عن ديارهم، يتمت أطفالاً، ورملت نساء، وأفقرت أغنياء، وأذلت أعزاء، وأخرى كوارث متنوعة، عواصف وأعاصير، وهناك زلازل وبراكين،، وحوادث طائرات ومركبات، كل ذلك يخوف الله به عباده، ويريهم بعض آثار قوته وقدرته، ويعرفهم ضعفهم، ﴿وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً﴾ ولا شك يا عباد الله أن فيها عبر وعظات لا يدركها إلا أولوا الألباب، وهي تظهر قدرة الله الباهرة، حيث يأذن لهذه الأرض أن تتحرك لبضع ثوان، فينتج عن ذلك هذا الدمار، وهذا الهلاك، وهذا الرعب.

ولقد جاء في بعض الآثار أن ذلك يكثر في آخر الزمان، في (خ) من حديث أبي هريرة قال صلى الله عليه وسلم : «لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم، ويتقارب الزمان، وتكثر الزلازل، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج" قيل وما الهرج؟ قال: القتل القتل».

وإن من الخطأ يا عباد الله ما يتردد في أوساط الناس، من أن هذه ظواهر طبعية، فواعجبا ما أشد غفلة الإنسان! وما أكفره بقدرة رب الأرباب، ومسبب الأسباب ﴿قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾ .

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه ...

عباد الله: لقد أهلك الله عز وجل أممًا وأقواماً وقروناً وأجيالاً،كانوا أشد منا قوة، وأطول أعماراً، وأرغد عيشاً، وأكثر أموالاً،فأستأصلهم وأبادهم، ولم يبق لهم ذكر ولا أثر، وتركوا وراءهم قصوراً مشيدة، وآباراً معطلة، وأراضٍ خالية، وزروعاً مثمرة،ونعمة كانوا فيها فاكهين، فأورث كل ذلك قوماً آخرين ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ﴾ وفي هذا يقول سبحانه: ﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ﴾ ﴿فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكان عذاب كل أمة بحسب ذنوبهم و جرائمهم، فعذب قوم عاد بالريح الشديدة العاتية، التي لا يقوم لها شيء، وعذب قوم لوط بأنواع من العذاب، لم يعذب بها أمة غيرهم، فجمع لهم بين الهلاك، والرجم بالحجارة من السماء، وطمس الأبصار، وقلب ديارهم عليهم بأن جعل عاليها سافلها، والخسف بهم إلى أسفل سافلين، وعذب قوم شعيب بالنار التي أحرقتهم، وأحرقت تلك الأموال التي اكتسبوها بالظلم والعدوان، وأما ثمود فأهلكهم بالصيحة فماتوا في الحال ... ومن اعتبر أحوال العالم قديماً وحديثاً وما يعاقب به من يسعى في الأرض بالفساد، وسفك الدماء بغير حق، وأقام الفتن، واستهان بحرمات الله، علم أن النجاة في الدنيا، والآخرة للذين آمنوا وكانوا يتقون"

ولنا مع سلفنا الصالح رحمهم الله وقفة مباركة لنتبين كيف كان حالهم في مثل هذه المواقف العظيمة فهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه زلزلت الأرض في عهده فجمع الناس ووعظهم فقال: "لئن عادت لا أساكنكم فيها".

وقال بعض السلف رحمهم الله لما زلزلت الأرض: "إن ربكم يستعتبكم".

والمتأمل في أحوال المسلمين اليوم يجد أن لديهم من البدع والشرك وسائر المعاصي ما الله به عليم. فترى الشرك الأكبر، من الطواف حول القبور، والعكوف حولها، وسؤال الأموات. والبدع مكان السنن، إضافة إلى محاربة الإسلام سراً وجهراً. وانتشار الربا وأكل أموال الناس بالباطل وكثرة الفواحش كالزنا وتبرج النساء وشرب الخمور والفجور،وآفة الآفات الحكم بغير شرع الله والتحاكم إليه والظلم والجور.

وإذا كانت كل هذه المصائب تحدث في بلاد المسلمين إلا من رحم الله فهل تستغرب بعد ذلك أن يعاني المسلمون هذه الأيام من الهزائم الحربية على أيدي أعدائهم وهل تستغرب حصول المصائب الأخرى كالفقر والمرض والتخلف والتعرض للفيضانات والسيول والزلازل والخسف وغير ذلك. لا تستغرب أبداً وصدق الله ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾.