شهر البركات

بسم الله الرحمن الرحيم

شهر البركات

28 / 8 / 1429 هـ ( ج )

الحمد لله رب البريات، عالم الخفيات، المطلع على الضمائر والنيات، أحمده سبحانه على ما خصنا به من جلائل النعم، وأشكره على ما حبانا به من ألوان الجود والكرم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً أما بعد:

عباد الله: إن مواسم الخير تمر مر السحاب، وإن العمر إلى نفاد، والعمل الصالح إلى انقطاع، والإنسان ظلوم جهول، تقوده الشهوة العارضة إلى الخطيئة، ويشغله المتاع ومحبة الأهل والأموال والأولاد عن الطاعة، ويلهيه الأمل المديد عن التوبة، حتى يفجأه الموت، وهو على غير استعداد، وينقله المنون إلى لحده دون كفاية من مهاد، فيكون عرضة للعذاب، من خلل العمل، أو ينفُذ إليه لهب النار لخرقة جنة التقوى بالمعاصي.

وإن في اغتنام مواسم الخير بالجد في العمل الصالح، والتوبة إلى الله من جميع القبائح، ما يعوض الله به العاملين عما مضى من نقص العمل، ويصرف به عقوبة ما اقترف المرء من الزلل، ولقد أظلنا شهر كريم ، وموسم عظيم ، يُعْظِم الله فيه الأجر ويجزل المواهب ، ويفتح أبواب الخير فيه لكل راغب ، شهر الخيرات والبركات ، شهر المنح والهبات ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ شهر محفوف بالرحمة والمغفرة والعتق من النار .

قال عبد العزيز بن مروان : كان المسلمون يقولون عند حضور شهر رمضان: اللهم قد أظلنا شهر رمضان وحضر ، فسلمه لنا وسلمنا له ، وارزقنا صيامه وقيامه ، وارزقنا فيه الجد والاجتهاد والنشاط ، وأعذنا فيه من الفتن .

وقال معلى بن الفضل : كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبله منهم . وقال يحيى بن أبي كثير كان من دعائهم: اللهم سلمني إلى رمضان وسلم لي رمضان وتسلمه مني متقبلا .

عباد الله: ستنقضي الدنيا بأفراحها وأتراحها، وتنتهي الأعمار بطولها و قصرها، ويعود الناس إلى ربهم، فكم من إنسان انتظر رمضان بأقوى الأمل، فباغته الأجل، فأكثر في رمضان من عمل الصالحات، فقد أتى إليك رمضان بعد طول غياب، ووفد إليك بعد فراق، فافتح فيه صفحة مشرقة مع مولاك، وأسدل الستار على ماضٍ نسيته، وأحصاه الله عليك، وتب إلى التواب الرحيم من كل ذنب وتقصير ، وفي اغتنام مواسم الخير بالجد في العمل الصالح، والتوبة مما سلف من القبائح، ما يعوِّض الله به العاملين عما مضى من نقص العمل، ويصرف به عقوبة ما اقترف المرء من الزلل.

عباد الله: هذا أوان التوبة والاستغفار، والأوبة والانكسار، والتضرع والافتقار، هذا زمان إقالة العثار، وغفران الأوزار، هذا رمضان الإجابة من الكريم لمن طرق بابه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا

يا عبد الله: لو بلغت ذنوبكم كثرةً عنان السماء، وما انتهى إليه البصر من الفضاء، حتى فاتت العد والإحصاء، لو بلغت ذلك تُبْ ولا تتردد، فإن الله يتوب على التائب، ويغفر زلل الآيب، التوبة تهدم ما قبلها، والإنابة تجب ما سلفها، فمن كان مبتلى بمعصية، فرمضان موسم التوبة والإنابة، الشياطين مصفّدة، والنفس منكسرة، والله تعالى ينادي ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ و في الحديث القدسي: « يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم، لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة» (ت)

الحمد لله:

عباد الله: مع قرب حلول شهر رمضان – بلغنا الله جميعاً إياه – نجد في كثير من وسائل الإعلام، المرئية والمسموعة والمقروءة، تلك الدعايات التي تدل على استعداد مشين، لهذا الشهر الكريم، من قِبل كثير من القنوات الفضائية، مسلسلات ماجنات، ومسرحيات هابطات، أفلام وسهرات، طرب وغناء، رقص وقلة حياء.

فنقول لكل من رضيَ أن يُدخل مثل هذه القنوات في بيته، ثلاثة أمور هي ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد:

الأولى: أن الله عز وجل، أمر الناس أن يتقوه في أنفسهم، فأين تقوى الله في مثل هذه المعصية، حين تجول ببصرك بين أمور محرمة ومنكرة.

الثانية: أن الله أمرك بأهل بيتك، أن تقيهم النار ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ أي أنقذوا أنفسكم من نار الله الرهيبة الموجعة، وأنقذوا معكم أهليكم الذين تزعمون أنكم تحبونهم، فكيف تحبونهم وأنتم تلقون بهم في مجالات خطرة، وصور منحلة، وعفن ماجن.

ألا يخشى من رضي لأولاده وأهل بيته بمثل هذه الأمور، من مغبة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي عند (م):" ما من مسلم يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة " ولا أعلم أحداً ينازع في أن مثل هذه القنوات، من الغش للأهل والأولاد.

فإن أبيت يا هداك الله: إلا السير خلف هوى نفسك، ومطاوعة الشيطان، فأذكّرك أمراً ثالثاً: وهو أن أمامك أمرين لا محيص لك عنهما: وهي أنك تتقلب في نعم الله صباحَ مساء، ألا تخاف أن يفجأك الله بعقوبة من عنده؛ فما أكثر العقوبات الدنيوية.

وإن أبيت إلا الإصرار على الذنب، فإن أمامك أمراً ثانياً لن تنجو منه، وهو المبيت في حفرة مظلمة، يملأ التراب فاك، وينخر الدود عظامك، ثم تقف حافياً عارياً أمام ربك، ويزيد من ألمك وحسرتك أن أهلك وذويك، سيتعلقون بك في ذلك اليوم، يريدون حقوقهم، كيف خدعتهم وغششتهم، سيتعلق بك زوجتك وابنتك، وأخوك وابنك ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. فإلى كل من وضع هذا الجهاز في بيته، أقول: ستقف والله بين يدي الله يوم القيامة، وسيسألك فماذا ستجيب، أمام علام الغيوب؟!

عباد الله: إن من يعلم بضرر هذه القنوات، وقبيح عاقبتها ثم لا يستجيب لنداء، ولا يرعوي لموعظة، فلا عليه إذن أن يجد على رقبة ابنه ناقوساً أو صليباً، ولا عليه أن يرى أبناءه يترنحون من أثر المسكرات والمخدرات، ولا عليه أن يرى ابنته ومحرمه تصادق خليلاً، وتخرج وتدخل بلا حياء ولا غيرة، ولا عليه إذن أن يسمع عن علاقات محرمة بين نساء متزوجات مع أخدان وأصحاب.

إن ما يبصره المرء عبر هذه القنوات، لا بد أن يتأثر به، وإن طال الزمن، ولكن الشيطان والهوى يُعمي ويصم.

فاللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام استر عوراتنا...