الخشية والخوف من الله

بسم الله الرحمن الرحيم

الخشية والخوف من الله

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا  عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب العالمين، وإله المرسلين، قيوم السماوات والأراضين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث بالكتاب المبين، الفارق بين الهدى والضلال، والغي والرشاد، والشك واليقين، أنزله لنقرأه تدبرا، ونتأمله تبصرا، ونسعد به تذكراً، ونحمله على أحسن وجوهه ومعانيه، ونصدق به ونجتهد على إقامة أوامره ونواهيه، ونجتني ثمار علومه النافعة الموصلة إلى الله سبحانه من أشجاره، ورياحين الحِكم من بين رياضه وأزهاره، ﴿يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ أسمع والله لو صادف آذانا واعية، وبصَّر لو صادف قلوباً من الفساد خالية، لكن عصفت على القلوب هذه الأهواء، فأطفأت مصابيحها، وتمكنت منها آراء الرجال فأغلقت أبوابها، وأضاعت مفاتيحها، وران عليها كسبها فلم تجد حقائق القرآن إليها منفذا . وصلى الله عليه وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد:

عباد الله : كان صحابة رسول الله أرق الناس أفئدة، وألينهم قلوبا، كانوا يعيشون مع الله، ذكره قوتهم، ومرضاته غايتهم، هم في واد، والناس في واد، أرَّق الخوف من الله مضاجعهم، وأسال مدامعهم، فكانوا كما قال الله ﴿كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ .

وصفهم علي بن أبي طالب بقوله : "لقد رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أرى اليوم شيئاً يشبههم، لقد كانوا يصبحون شعثاُ صفراً غبراً، بين أعينهم أمثال ركب المعزي، قد باتوا لله سجداً وقياماً، يتلون كتاب الله، يراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا أصبحوا فذكروا الله مادوا كما تميد الشجرة في يوم الريح، وهملت أعينهم حتى تبل ثيابهم، والله لكأن القوم باتوا غافلين " .

فهذا أبو بكر صديق هذه الأمة، وصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الرفيق الشفيق، رقيق القلب، غزير الدمع، كان إذا قرأ القرآن لا يملك دمعه، فتنسكب من عينيه العبرات، ويكاد صوته أن ينحبس حتى لا يكاد يسمع .

وعمر الفاروق الذي يفر منه الشيطان، يخاف من الله حتى تمنى أن يكون نسياً منسيا، يقول عبد الله بن عامر : رأيت عمر بن الخطاب أخذ تبنة من الأرض، وقال : يا ليتني كنت هذه التبنة ! ليتني لم أخلق ! ليت أمي لم تلدني ! ليتني لم أكن شيئاً ! ليتني كنت نسياً منسيا .

وهذا ذو النورين، صاحب الهجرتين، عثمان بن عفان، الشهيد الصابر، يقول : لو أني بين الجنة والنار، لا أدري إلى أيهما يؤمر بي لاخترت أن أكون رماداً قبل أن أعلم إلى أيهما أصير .

وذا رابع الخلفاء، والد السبطين، الحسن والحسين، علي بن أبي طالب، وصفه ضرار بن مرة فقال : كان غزير الدمعة، طويل الفكرة، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين .

أقبلوا على الله فأقبل الله عليهم، وأكثروا من ذكر الله فرفع الله ذكرهم، جعلوا همهم واحداً وجعلوه في الله، تركوا الدنيا لأهلها وأقبلوا على الآخرة، كانوا في خوف دائم من ربهم، قطع عليهم كل لذة إلا لذة ذكره وطاعته ومناجاته، حتى وهم يفعلون الطاعات، كان الخوف يسيطر على قلوبهم وجوانحهم ألا يتقبل الله منهم، كما قال الله : ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ وعند (حم و ت) من حديث عائشة قالت : قلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم : قول الله تعالى ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ أهو الذي يزني، ويشرب الخمر، ويسرق ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : «لا، يا ابنة الصديق، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق، ويخاف أن لا يقبل منه».

قال الحسن : عملوا والله بالطاعات، واجتهدوا فيها، وخافوا أن ترد عليهم، إن المؤمن جمع إحساناً وخشية، والمنافق جمع إساءة وأمنًا .

كانت تؤثر فيهم المواعظ فتدمع عيونهم، وتقشعر جلودهم، وترتجف أطرافهم، كما قال العرباض بن سارية : وعظنا رسول الله موعظة بليغة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون .

وفي (خ م) عن أنس بن مالك قال : خطب النبي خطبة ما سمعت مثلها قط قال : «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيراً، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله» ، قال أنس : فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم  وجوههم ولهم حنين.

وفي رواية «فأكثر الناس البكاء»، وفي رواية «فإذا كل رجل لافاً رأسه في ثوبه يبكي» .

وكلما ازداد الانسان معرفة بالله ازداد خوفه من الله، فالعلم بالله يورث الخشية ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ﴾ يقول العلامة ابن القيم : "فكلما كان العبد بالله أعلم، كان له أخوف، قال ابن مسعود : وكفى بخشية الله علماً .

فمن استقر في قلبه ذكر الدار الآخرة وجزاؤها، وذكر المعصية ووعيدها، وعدم الوثوق بإتيانه بالتوبة النصوح، هاج من قلبه من الخوف ما لا يملكه ولا يفارقه حتى ينجو . وأما إن كان مستقيماً مع الله، فخوفه يكون مع جريان الأنفاس؛ لعلمه بأن الله مقلب القلوب، وما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن عز وجل، فإن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه، وقد كانت أكثر يمينه صلى الله عليه وسلم : «لا ومقلب القلوب، لا ومقلب القلوب» .

وعلى دربهم سار خلفهم من التابعين، فهذا واحد أمته في الفضل، نجيب عشيرته في العدل، جمع زهداً وعفافاً، وورعا وكفافاً، إنه عمر بن عبد العزيز كان شديد الخوف من الله، وكان القوم يبكون لبكائه، يقول مولى من مواليه : بكى عمر بن عبد العزيز فبكت فاطمة، فبكى أهل الدار، لا يدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء، فلما تجلت عنهم العبرة، قالت له فاطمة : بأبي أنت يا أمير المؤمنين ! مم بكيت ؟ قال : ذكرت مُنصرف القوم بين يدي الله عز وجل، فريق في الجنة، وفريق في السعير، ثم صرخ وغشي عليه .

الخطبة الثانية :

عباد الله خطب عمر بن عبد العزيز فقال : أما بعد : فإن الله عز وجل لم يخلقكم عبثا، ولم يدع شيئاً من أمركم سدى، وإن لكم معاداً، فخاب وخسر من خرج من رحمة الله، وحرم الجنة التي عرضها السماوات والأرض، واشترى قليلاً بكثير، وفانياً بباق، وخوفاً بأمن، ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيخلفها بعدكم الباقون ؟ كذلك حتى تُرد إلى خير الوارثين، في كل يوم وليلة تشيعون غاديا ورائحاً إلى الله، قد قضى نحبه، وانقضى أجله، حتى تغيبوه في صدع من الأرض، ثم تدعونه غير ممهد ولا موسد، قد خلع الأسباب، وفارق الأحباب، وسكن التراب، وواجه الحساب، مرتهناً بعمله، فقيرا إلى ما قدم، غنيا عما ترك، فاتقوا الله قبل نزول الموت، ثم وضع طرف ردائه على وجهه فبكى وشهق، وبكى الناس من حوله، وكانت آخر خطبة خطبها .

يقول أحد السلف : الخوف سراج القلب، به يبصر ما فيه من الخير والشر، وكل أحد إذا خفته هربت منه، إلا الله عز وجل، فإنك إذا خفته هربت إليه .

ويقول أبو سليمان الداراني: ما فارق الخوف قلباً إلا خرب . ويقول إبراهيم بن سفيان: إذا سكن الخوف القلوب أحرق مواضع الشهوات منها، وطرد الدنيا عنها . ويقول ذو النون : الناس على الطريق ما لم يزل عنهم الخوف، فإذا زال عنهم الخوف ضلوا الطريق . ويقول حاتم الأصم : لا تغتر بمكان صالح، فلا مكان أصلح من الجنة، ولقي فيها آدم ما لقي، ولا تغتر بلقاء الصالحين ورؤيتهم فلا شخص أصلح من النبي صلى الله عليه وسلم  ولم ينتفع بلقائه أعداؤه والمنافقون .

فعلى العبد أن يخاف الله، فكم من مغبوط بحاله انعكس عليه الحال، ورجع من حسن المعاملة إلى قبيح الأعمال، فأصبح يقلب كفيه، ويضرب باليمين على الشمال ! بينما بدْر أحواله مستنيراً في ليالي التمام، إذ أصابه الكسوف فدخل في الظلام، فبُدِّل بالأنس وحشة، وبالإقبال إعراضاً، وبالقرب بعداً، كما قيل :

أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت *** ولم تخف سوء ما يأتي به القدر

وسالمتك الليالي فاغتررت بها *** وعند صفو الليالي يحدث الكـدر

وقد شبَّه العلامة ابن القيم رحمه الله القلب في سيره إلى الله تعالى بمنزلة الطائر، فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه، فمتى سلم الرأس والجناحان، فالطائر جيد الطيران، ومتى قطع الرأس مات الطائر، ومتى فقد الجناحان فهو عرضة لكل صائد وكاسر، ثم قال : ولكن السلف استحبوا أن يقوى في الصحة جناح الخوف على جناح الرجاء، وعند الخروج من الدنيا يقوى جناح الرجاء على جناح الخوف

عباد الله : يقول ابن كثير عن تفسير قوله تعالى ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ﴾: فإذا كان الجبل في غلظته وقساوته، لو فهم هذا القرآن فتدبر ما فيه، لخشع وتصدع من خوف الله عز وجل، فكيف يليق بكم يا أيها البشر، أن لا تلين قلوبكم، وتخشع وتتصدع من خشية الله، وقد فهمتم عن الله أمره، وتدبرتم كتابه .

فاتقوا الله عباد الله : فما أسعد من جعل التقوى رأس ماله، وما أرشد من راقب الله في جميع أحواله، ويا ويح من نسي الآخرة وكان بالدنيا جل اشتغاله . واحذروا مقاماً عنت فيه الوجوه، وخشعت فيه الأصوات، وذل فيه الجبارون، وتضعضع فيه المتكبرون، واستسلم فيه الأولون والآخرون بالذل والمسكنة والخضوع لرب العالمين .