التفاؤل والتشاؤم

بسم الله الرحمن الرحيم

التفاؤل والتشاؤم

عباد الله : إذا ضاق الأمر اتسع، وإذا اشتد الحبل انقطع، وإذا اشتد الظلام بدا الفجر وسطع، سنة ماضية، وحكمة قاضية، فلتكن نفوسكم راضية . إن مما ابتلي به كثير من الناس في هذا الزمن، النظرة المتشائمة من حال الناس، وسوء عملهم، والاقتصار على تعداد أنواع الفساد، وما وصل  إليه المفسدون من غاية في الشر، لم يصلوا إليها من قبل . وإن المسلم العاقل الحصيف، المتأمل في نصوص الشريعة، الموقن بما وعد الله عباده المتقين الصابرين، يعلم ويدرك كل الإدراك، أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً، ولن يغلب عسر يسرين .

يغشى مجالس الناس، نظرات تترقب فساد الشباب وانحراف الأمة، وزيغ المرأة وخروجها عن تعاليم دينها، بما نراه من غزو فكري، وعقائدي . ويغشى مجالس الناس، نظرات تترقب انحراف كثير من المسلمين عن تعاليم دينهم، واستبدالهم ذلك بكل وافد من الغرب أو الشرق، ويغشى مجالس الناس قولهم : إن الناس لم يعودوا كالناس سابقاً، فالجار لا يعرف جاره، والابن لا يحترم أباه، والبنت لا تساعد أمها، والصديق يتهرب إذا احتاجه صديقه، والشهم لم يعد له وجود في عصر المدنية، وكل هذه أمور وإن كان فيها شيء من الصحة والواقع، إلا أنها لا يمكن أن تكون مبرراً لهؤلاء المتشائمين أن ينشروا بين الأمة اليأس من صلاح الناس فإن النبي صلى الله عليه وسلم  لما أرسل معاذاً وعلياً إلى اليمن قال : «بشرا ولا تنفرا، يسرا ولا تعسرا» .

يقول النووي – رحمه الله - : وفي هذا الحديث، الأمرُ بالتبشير بفضل الله، وعظيم ثوابه، وجزيل عطائه، وسعة رحمته، والنهيُ عن التنفير، بذكر التخويف وأنواع الوعيد، محضة من غير ضمها إلى التبشير، وفيه تأليف من قرب إسلامه، وترك التشديد عليهم، وكذلك من قارب البلوغ من الصبيان ومن بلغ، ومن تاب من المعاصي، كلهم يتلطف بهم، ويُدَرَّجون في أنواع الطاعة قليلا قليلا، وقد كانت أمور الإسلام في التكليف على التدريج، فمتى يُسِّر على الداخل في الطاعة أو المريد للدخول فيها، سهلت عليه، وكانت عاقبته غالبا التزايد منها، ومتى عُسِّرت عليه أو شك أن لا يدخل فيها، وإن دخل، أو شك أن لا يدوم، أو لا يَسْتَحْلِيها أ. هـ 

عباد الله : التبشير مما يرغب الناس في الطاعة، والتنفير نتائجه الزيادة في العصيان والصد عن سبيل الرحمن، ولهذا لما نُفِّر الرجل الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً عن التوبة، زاد إجرامه فكمَّل المائة، وأما حين بُشِّر، اندفع إلى الخير والتوبة، حتى إذا أدركته الوفاة نأى بصدره إلى القرية الصالحة، كل ذلك بسبب تبشيره .

ومن طبائع البشر أنهم إذا نُفِّروا نفروا، وإذا بُشِّروا استبشروا، فالواجب على الدعاة إلى الله أن يتحببوا إلى الناس، وأن لا ينفذ اليأس إلى قلوبهم من صلاح الناس، فإن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان من ألد خصوم الإسلام، ومن يعرف شدته على أخته وزوجها حين أسلما، لا يمكن أن يتصور إسلامه، حتى قال : عامر بن ربيعة عنه : لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب، ولكنه ما لبث أن منَّ الله عليه بالإسلام، وتحولت شدته إلى الحق، حتى قال ابن مسعود : ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر بن الخطاب .

وهذا الفضيل بن عياض رحمه الله كان قاطعُ طريق، حتى سمع قارئاً يتلو ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ﴾ فلما سمعها قال : بلى يارب، قد آن، فترك ذلك وجاور بيت الله الحرام، حتى قال ابن المبارك : ما بقي على ظهر الأرض عندي أفضل من الفضيل بن عياض.

والواقع المشاهد، يشهد أن كثيراً من أهل المعاصي، اهتدوا وعادوا إلى رشدهم ، بعد أن كانوا على طريق من الضلالة عظيم . عباد الله : خرج (خ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «كان رجل يسرف على نفسه، فلما حضره الموت قال لبنيه : إذا أنا مت، فأحرقوني ثم اطحنوني ثم ذُرّوني في الريح، فوالله لئن قدر علي ربي، ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا، فلما مات فُعل به ذلك، فأمر الله الأرض فقال : اجمعي ما فيك منه، ففعلت، فإذا هو قائم بين يدي الله، فقال له : ما حملك على ما صنعت ؟ قال : خشيتك يا رب، فغفر الله له» .

وخرج (م) من حديث جندب بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  حدث : «أن رجلا قال : والله لا يغفر الله لفلان، وإن الله تعالى قال «من ذا الذي يتألى عليَّ أن لا أغفر لفلان، فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك» .

وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه أخبر عن رجلين ممن كان قبلنا كان أحدُهما عابدا، وكان الآخر مسرفا على نفسه، وكان العابد يعظه فلا ينتهي، فرآه يوما على ذنب استعظمه، فقال : والله لا يغفر الله لك، فغفر الله للمذنب وأحبط عمل العابد، وقال أبو هريرة لقد تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته، فكان أبو هريرة يحذر الناس أن يقولوا مثل هذه الكلمة في غضب خرجه الإمام أحمد وأبو داود .

فهذا غضب لله ثم تكلم في حال غضبه لله بما لا يجوز وحكم على الله بما لا يعلم فأحبط الله عمله .

قل لمن في حضيض اليأس سقطوا، وعلى الشؤم هبطوا، وفي مسألة القدر غلطوا : اعلموا أنه سبحانه ينزل الغيث من بعد ما قنطوا . ﴿سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً﴾ ﴿لاَ تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً﴾ .

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي تكفل بحفظ دينه، وجعل العزة لمن تمسك به في كل حينه، والصلاة والسلام على خليله وحبيبه وصفيه وناشر دينه، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .....أما بعد :

عباد الله : عباد الله : هذه النمل في صعود وهبوط، وعلو وسقوط، ولا تعرف اليأس ولا القنوط، وهذه النحلة في طلب رزقها قائمة، وفي حسن ظنها دائمة، وليست مع اليأس نائمة، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:  «من قال : هَلَكَ الناس، فهو أهلكُهم» فهو أكثرهم هلاكاً، أو أهلكَهم أي هو سبب هلاكهم، ولا شك أن المسلم عليه أن يزرع البذرة ولا ييأس من روح الله، فإنه ﴿لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ﴾. ﴿وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ﴾ الذين لا يستروحون روحه، ولا يحسون رحمته، ولا يستشعرون رأفته وبره ورعايته، فأما القلب الممتلئ بالإيمان، المتصل بالرحمن، فلا ييأس ولا يقنط، مهما أحاطت به الشدائد، ومهما تغيرت الأحوال، وتنكرت الأفعال . 

عباد الله : في (خ م) أنه صلى الله عليه وسلم كان  يعجبه الفأل؛ لما فيه من التشجيع على نشر الخير، والحث على إصلاح الناس، ولو كانوا على درجة من العصيان، فالفساد وإن عم، والفتن وإن كثرت، والمعاصي وإن اسْتُمرأت، والربا وإن وقع، والزنا وإن انتشر، والظلم وإن تكرر، والرشوة، والعقوق، والقطيعة وقل مثل ذلك كثير، وإن وقعت فإن الحق ظاهر، والدين منتصر، والله معل كلمته، وناصر دينه، وغالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون . فالتشاؤم سوء ظن بالله تعالى بغير سبب محقق، ولا تقولوا : قد كثرت ذنوبنا، وتراكمت عيوبنا، فليس لها طريق يزيلها، ولا سبيل يصرفها، فتبقون بسبب ذلك، مصرين على العصيان، متزودين مما يغضب عليكم الرحمن، ولكن اعرفوا ربكم بأسمائه الدالة على كرمه وجوده . وهذا نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول : «إذا رأى أحدكم ما يكره، فليقل : اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك» .

فاللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت .........