الأمر بالألفة وترك التباغض

بسم الله الرحمن الرحيم

الأمر بالألفة وترك التباغض

الحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، لقد جاءت رسل ربنا بالحق. الحمد لله الكريم الوهاب.............أما بعد:

عباد الله : إن الإنسان بطبعه يألف ويؤلف، ولا يمكن له أن يعيش في هذه الدار بين الخلق عيشاً سعيداً بدون هذه الخصلة.

يقول الماوردي رحمه الله : "إن الإنسان مقصود بالأذية، محسود بالنعمة، فإذا لم يكن آلفاً مألوفاً، تخطفته أيدي حاسديه، وتحكمت فيه أهواء أعاديه، فلم تسلم له نعمة، ولم تصف له مدة، فإذا كان آلفاً مألوفاً، انتصر بالألفة على أعاديه، وامتنع من حاسديه، فسلمت نعمته منهم، وصفت له مدته عنهم، وإن كان صفو الزمان عسرا، وسلمه خطرا".

أول ما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وجد أهلها حزبين متناحرين، قد أهلكتهم الحروب خلال مائة وعشرين سنة قبل الهجرة، قد سعى في إصلاحهم الخطباء بخطبهم، والشعراء بشعرهم، والوجهاء بجاههم، فلم يصلوا إلى ما ابتغوا ﴿لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ حتى جاء المصطفى صلى الله عليه وسلم فجمع الله قلوبهم عليه، وألف بينهم.

وهل يمكن أن يجمع هذه القلوب إلا أخوة في الله تصغر إلى جانبها الأحقاد التاريخية، والثارات القبلية، والأطماع الشخصية، والرايات العنصرية. فلما استقر في قلوبهم حقيقة الإيمان، وتجلت أمامهم مغبة طاعة الرحمن، وعاقبة الشرك والطغيان، كانوا أمثلة رائعة في التمسك والاقتداء، والتطبيق والاهتداء، وجعل المحبة الإيمانية فوق غيرها.

وإن العالم الإسلامي اليوم يعاني من تفاقم العداوة، وتطاير التباغض، حتى أصبحوا أحزاباً متناحرين، وغالب ذلك سببه التنافس على حطام الدنيا الفاني، والواجب الانقياد لأمر  الله بالائتلاف وعدم التفرق ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا﴾ وقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم الخيرية عمن فقد خصلة الألفة، ففي (حم) من حديث سهل بن سعد أنه قال : «المؤمن يألف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف».

ولم تزل العرب منذ قديم الزمن حتى قبل النبوة، تجتذب البعداء، وتتألف الأعداء، حتى لو كان عن طريق المصاهرة، فيصير النافر مؤانساً، والعدو موالياً، ويكون للصهر بين الاثنين ألفة بين القبيلتين، وموالاة بين العشيرتين. وهكذا كانت سجية النبي صلى الله عليه وسلم  يتألف الناس والقبائل حتى بالمصاهرة، ومن نظر إلى غالب نكاحه وجد ذلك، فلقد تزوج بأم حبيبة بنت أبي سفيان وكان أبوها سيد قريش، وهو على الكفر آنذاك، فلم يواجه النبي صلى الله عليه وسلم  بعدها بأذى، وتزوج بصفية بنت حيي بن أخطب، سيد بني النضير، وتزوج بجويرية بنت الحارث سيد بني المصطلق، وتزوج بأم سلمة وهي من بني مخزوم، حي أبي جهل وخالد بن الوليد، فلم يعرف لخالد موقفاً بعدها، بل أسلم طائعاً راغباً. لقد كانت سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم مليئة بأروع الأمثلة، التي تبين للعبد أهمية التأليف على دين الله، والتودد إلى الخلق، وعندها يعلم العبد أنه لن يسع الناس بماله، ولا بأي شيء من متاع الدنيا، وإنما يسعهم بأخلاقه ومعاملته، وفق سنة النبي صلى الله عليه وسلم .

ومن صور تأليف النبي صلى الله عليه وسلم  للناس حتى دخلوا في دين الله أفواجا، ما رواه (م) من حديث أنس قال : ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم  على الإسلام شيئاً إلا أعطاه قال: فجاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة.

وانظروا إلى فعل النبي صلى الله عليه وسلم  مع صناديد قريش يتألفهم بالدنيا، ويبين لأصحابه أن الدنيا لا شيء إلا أن تعين على طاعة الله، في (خ م) من حديث أبي سعيد قال : بعث علي إلى النبي صلى الله عليه وسلم  بذهيبة فقسمها بين الأقرع وعيينة وزيد الطائي وعلقمة، فغضبت قريش والأنصار وقالوا: يعطي صناديد أهل نجد ويدعنا! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إنما أتألفهم».

وفي (خ م) من حديث عبد الله بن زيد قال : لما أفاء الله على رسوله يوم حنين قسم في المؤلفة قلوبهم، ولم يعط الأنصار شيئاً، فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس، فخطبهم النبي صلى الله عليه وسلم  فقال: «ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاء والبعير، وتذهبون برسول الله إلى رحالكم، لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار، ولو سلك الناس وادياً وشعباً لسلكت وادي الأنصار وشعبها، الأنصار شعار، والناس دثار، إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض».

ويقول ابن عباس : النعمة تكفر، والرحم تقطع، وإن الله تعالى إذا قارب بين القلوب، لم يزحزحها شيء.

ويقول قتادة: والله الذي لا إله إلا هو إن الألفة لرحمة، وإن الفرقة لعذاب.

وكتب إلى الأوزاعي: إن يكن الدهر فرق بيننا، فإن ألفة الله الذي ألف بين المسلمين قريب

الخطبة الثانية:

عباد الله : ما أكثر الحقوق الضائعة بين المسلمين اليوم، وما أشد تفريط كثير من المسلمين في حقوق بعضهم لبعض.

أين التراحم والتعاون والتكافل؟ أين التضافر والتكاتف والتآلف؟ أين مبدأ الأمة الواحدة، والجسد الواحد.  قال تعالى ﴿إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ وهل يظلم الأخ أخاه؟ وهل يخذل الأخ أخاه؟ وهل يحقر الأخ أخاه؟ وهل يحسد الأخ أخاه؟ وهل يغدر الأخ بأخيه؟ وهل يشمت الأخ بأخيه؟ كل ذلك يحدث في دنيا الناس اليوم. تسيل العين دماً، ويتفطر القلب كمداً، كلما تلمسنا هذا الجسد الواحد في واقعنا فلم نجده !!!

إن أمة الإسلام لم تجتمع على مصالح دنيوية، أو مآرب شخصية، وإنما اجتمعت على مبدأ خالد وعقيدة ربانية صافية، جعلت من رعاة الغنم الحفاة العراة أعظم أمة عرفتها البشرية. أعظم أمة في أخلاقها، أعظم أمة في عباداتها، أعظم أمة في حضارتها وتاريخها، أعظم أمة في عدلها وإنصافها، أعظم أمة في وفائها ومعاملاتها. فمن الذي ساوى بين الناس إلا الإسلام؟ ومن الذي أخذ للضعيف حقه من القوي إلا الإسلام؟ ومن الذي جعل للفقير حقاً في مال الغني إلا الإسلام؟

عباد الله : إن الأخوة الحقيقية تقتضي التعاون والتراحم، والتماسك والتناصح، والتآخي بين المسلمين ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا﴾ والأخوة الحقيقية تقتضي موالاة المسلم لأخيه ونصرته وإعانته على الحق دون الباطل ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ وفي (م) : «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ههنا التقوى ههنا التقوى ههنا، ويشير إلى صدره، بحسب امرىْ من الشر أن يحقر أخاه المسلم».

عباد الله : إن من أسباب الألفة بين المسلمين: إفشاء السلام، والابتسامة في الوجوه، مغفرة للزلة، وأداء الأمانة والنصيحة، ستر للعورات، وقضاء للحوائج، وإصلاح ذات البين،خرج (خ م) من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم  قال : «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف». ورأى ابن عباس رجلاً فقال: إن هذا ليحبني قالوا: وما أعلمك ؟ قال : إني لأحبه، والأرواح جنود مجندة. ومن الأمثلة السائرة : القلوب شواهد.

فليتق الله أقوام يحكمون على الخلق من أول نظرة من غير تعارف، فإن الأرواح إذا اقتربت ائتلفت، فلنكن جميعاً كما وصف الله تعالى صحابة رسوله في كتابه ﴿وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾.

ولنكن كما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم  فيما خرجه (م) من حديث أبي هريرة أنه قال : «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً».

فاللهم نسألك أن تجمع كلمة المسلمين، وأن تؤلف بين قلوبهم، وأن توحد صفوفهم، وأن تصلح ذات بينهم، وأن تهديهم سبل السلام. اللهم إنا نعوذ بك أن نضل ...