احفظ الله يحفظك

بسم الله الرحمن الرحيم

احفظ الله يحفظك

عباد الله :  كم مضى من عمر الحياة، وكم سلف من العصور، وكم تقلب من الدهور، أمم على إثرها أمم،  وأجيال تعقب أجيالاً، رجال على إثر رجال، أحوال متباينة،  وصور متغايرة،  وأمور تدار،  والله يخلق ما يشاء ويختار .

سنن الله معلومة، وآياته ظاهرة، من تأملها فعمل بمراد الله نجا، ومن سبرها فانتهى عن نواهيه سلم، «عرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة» «حفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك» هذه وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما وكان فتى صغيراً .

كم من عباد الله قد بذلوا أوقاتهم، وأفنوا أعمارهم، تقرباً إلى الله في حال الرخاء، فلما جاءت الشدائد، كان الله معهم . نصرهم وآواهم، حفظهم وكفاهم، ومما سألوه أعطاهم . هذا أبو الأنبياء إبراهيم e يلقيه قومه في النار فيأتيه الحفظ الآلهي ﴿يَانَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً

وهذا يونس عليه السلام يسقط في لجج البحار فيبتلعة الحوت، فهو في ظلمة جوف الحوت، في ظلمة جوف البحر، في ظلمة الليل، في ظلمات ثلاث، فلا أحد يعلم مكانه، ولا أحد يسمع نداءه، ولكن يسمع نداءه من لا يخفى عليه الكلام، ويعلم مكانه من لا يغيب عنه مكان، فدعا وقال وهو على هذه الحال : ﴿لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ فيجيء الجواب بالنجاة ﴿وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي المُؤْمِنِينَ

قال الحسن البصري : ماكان ليونس صلاة في بطن الحوت، ولكنه قدم عملاً صالحاً في حال الرخاء، فذكره الله في حال البلاء، وإن العمل الصالح ليرفع صاحبه، فإذا عثر وجد متكأً أ . هـ 

ولا يزال  الله عز وجل يلطف  بأوليائه وعباده الصالحين، فيفرج كربهم، وينفس شدائدهم، حيث كان لهم مع الله معاملة في الرخاء .

وهذا نبي الله أيوب،  كان كثيُر المال من سائر صنوفه وأنواعه،  وكان له أولاد  وأهلون، فسلب ذلك كلُه، وابتلي جسده بأنواع البلاء، فلم يبق منه عضو سليم سوى قلبه ولسانه، يذكر بهما ربه . وطال مرضه حتى عافه الجليس، وأوحش منه الأنيس،  عند ذلك  نادى ربه ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ فيأتيه الجواب ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ

وزكريا يدخل على مريم، فيجد عندها رزقا، فاكهه لم يأت أوان حصادها، قال ﴿أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ﴾ فرجع  وفكر، فإذا هو طاعن في السن، وامرأته  عقيم لاتلد، ولكن الذي يرزق الشيء في غير أوانه، قادر على أن يرزقه الولد ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ﴾ فجاءه الجواب  ﴿يَازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِياًّ﴾ .

وحِفظُ الله وجده يوسف عليه السلام في الجب، و وجده موسى عليه السلام في اليَم، و في قصر فرعون وهو عدو له متربص . 

عباد الله : من حِفظ الله للعبد، أن يحفظه في بدنه وقوته، وعقله وماله، وكان  الطبري قد جاوز المائة، وهو ممتع بعقله وقوته، فوثب يوما من السفينة إلى الأرض، وثبة شديدة، فسئل عن  ذلك فقال: هذه جوارح حفظناها في الصغر، فحفظها الله علينا في الكبر .

ويقول محمد بن المنكدر : إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده، وولد ولده، والدويرات التي حوله، فما يزالون في حفظ من الله وستر، ومن حفظ الله في صباه وقوته، حفظه الله حال كبره وضعفه، ومتعه بسمعه وبصره، وحوله وقوته وعقله .

الخطبة الثانية

ثم استخبر خبر الثلاثة من بني إسرائيل، الذين قص النبي صلى الله عليه وسلم قصتهم، وأخبر خبرهم، يوم أن آواهم المبيت إلى غار، فتدهدهت عليهم صخرة عظيمة أغلقت فم الغار، فإذا الغار صندوق مغلق محكم الإغلاق، مقفل موثق الإقفال، إن نادوا فلن يسمع ندائهم، وإن استنجدوا فلا أحد ينجدهم، وإن دفعوا سواعدهم أضعف وأعجز من أن تدفع صخرة عظيمة، وكانت كربة وشدة، فلم يجدوا وسيلة إلا أن يتذكروا معاملتهم في الرخاء، فدعوا الله في الشدة بصالح أعمالهم في الرخاء . دعا أحدهم ببره بوالديه، يوم أتا فوجدهما نائمين، وطعامهما قدح من لبن في يده، وصبيته يتضاغون من الجوع، وكان بين خيارين، إما أن يوقظ الوالدين من النوم، وإما أن يطعم الصبية، ولكنه اختار أمراً ثالثاً، فوقف و القدح على يده، والصبية يتضاغون عند قدميه، ينتظر استيقاظ والديه، وهما يغطان في نوم عميق، حتى انبلج الصبح، وأسفر الفجر فاستيقظا، وبدأ بهما، وأعرض عن حنان الأبوة، وقدم عليه حنان البنوة، فشرب أبوه وانتظر بنوه . «اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه»

ثم دعا الآخر، فتوسل إلى الله بمراقبته، يوم أن قدر على المعصية، وتمكن من الفاحشة، ووصل إلى أحب الناس إليه ابنة عمه، بعد أن اشتاق إليها طويلاً، وراودها كثيرا، حتى إذا أمكنته الفرصة، واستطاع أن يصل إلى شهوته، ويستمتع بلذته، خاطبت فيه تلك المرأة مراقبة الله، فقالت : اتق الله ! ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فارتعد قلبه، واقشعر جلده، ووجفت نفسه، وتذكر مراقبة الله  له، فقام عنها وهي أحبُ الناس إليه، وترك المال الذي أعطاها .

«اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه»

ودعا الثالث، فتوسل بعمل صالح قربه، وهو الصدق و الأمانة، حيث استأجر أجراء، فأعطاهم أجرهم، وبقي واحد لم يأخذ أجره، فنماه وضارب فيه، فإذا عبيد وماشية وثمر، ثم جاء الأجير بعد زمن طويل يطلب حقه، فكان يستطيع أن يقول : هذا حقك، أصوعٌ من الطعام، ولكنه كان أمينا غاية الأمانة، نزيها منتهى النزاهة، فقال : حقك ماتراه، كل هذه الماشية لك، فكانت المفاجأة !  فقال الفقير : اتق الله ولا تستهزء بي، فقال يا عبد الله، إني لا ستهزء بك، إن هذا كلَه لك، فاستاقه جميعا ولم يترك له شيئا .

«اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا مانحن فيه»

وتنامت دعواتهم، وكثرة مناجاتهم، فإذا الشدة تنفرج، والضيق يتسع، والنور يشع من جديد، فيخرجون من الغار يمشون .

عباد الله : وكما كُشف عن الأفراد كروب وفرجت شدائد, لأنهم عرفوا الله في الرخاء, فكذا تفرج عن الأمة الكروب وتنفس عنهم الشدائد، إذا عرفو الله في الرخاء. والأمة اليوم يا عباد الله : تعيش شدة تدكها دكًا. فلنعلم أن الأمة تدفع ثمن غفلة طويلة ونسيان لله, وطول صدود عنه, فها نحن ندعو وندعو في الشدة, وطالما أطلنا التفريط في الرخاء. فعلينا يا عباد الله : أن نجتهد في طاعة الله، وأن يجتنب معصيته، فبؤساً لقوم نسوا الآخرة وأهملوها، وتركوا أوامر الله وضيعوها، بؤساً لقوم آثروا الدنيا على الآخرة، فباعوا عيشاً لا يفنى ولا يزول، بعيش زائل مملوء بالتنكيد، إن أضحك قليلاً، أبكى كثيراً، وإن سر يوماً، أحزن شهوراً، آماله آلام، وحقائقه أحلام، أوله مخاوف، وآخره متالف .