آثار الإيمان

بسم الله الرحمن الرحيم

آثار الإيمان

أيها المسلمون، يجد المتبصر في أمور الحياة وشؤون الناس ، فئات تعيش ألواناً من التعب والشقاء، وتنفث صدورها أنواعاً من الضجر والشكوى، ضجر وشقاء يعصف بالأمان والاطمئنان، ويفقد الراحة والسعادة، ويتلاشى معه الرضى والسكينة. ويعود المتبصر كرة أخرى ليرى فئاتٍ أخرى قد نعمت بهنيء العيش ، كريمة على نفسها، كريمة على الناس، طيبة القلب ، سليمة الصدر طليقة المحيا. ما الذي فرق بين هذين الفريقين؟ وما الذي باعد بين هاتين الفئتين؟ إنه الإيمان وآثاره «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً» م بذلك أخبر الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام كما أخبر أن «ثلاثاً من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار» خ

حلاوة الإيمان داخلية ، في نفس رضية ، وسكينة قلبية ، تسري سريان الماء في العود، وتجري جريان الدماء في العروق. لا أرقَ ولا قلق ، ولا ضيق ولا تضييق، بل سعةً ورحمة، ورضىً ونعمة.

الإيمان بالله هو سكينة النفس، وهداية القلب، وهو منار السالكين ، وأمل اليائسين، إنه أمان الخائفين ، ونصرة المجاهدين ، وهو بشرى المتقين ، ومنحة المحرومين ، و هو أب الأمل ، وأخ الشجاعة ، وقرين الرجاء.

إيمان بالله تستسلم معه النفس لربها، وتنزع إلى مرضاته، تتجرد عن أهوائها ورغباتها، تعبده سبحانه وترجوه، تخافه وتتبتل إليه، رضىً بالله ويقين ، يدفع العبد إلى أن يمد يديه متضرعاً مخلصاً «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» م    

أيها المسلمون، إذا صح الإيمان ، ووقر في القلب ، فاض على الحياة، فإذا مشى المؤمن على الأرض  مشى سوياً، وإذا سار سار تقيا، ريحانة طيبة الشذى، وشامة ساطعة الضياء ، حركاته وسكناته إيمانية مستكينة: «فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه» خ

من ذاق حلاوة الإيمان ، وعرف طريقه، طاب عيشه ، و سار على بصيرة، و نال الرضى وبلغ المقصد. ﴿أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ

هل رأيت زياً ومنظراً أحسن وأجمل من سَمْت الصالحين؟! وهل رأيت تعباً ألذ من نعاس المتهجدين؟! وهل شاهدت ماءً أصفى من دموع النادمين ؟! وهل رأيت خضوعاً أحسن من انحناء الراكعين وجباه الساجدين؟! وهل رأيت جنة في الدنيا أمتع وأطيب من جنة المؤمن وهو في محراب المتعبدين؟! إنه ظمأ الهواجر ، ومجافاة المضاجع . فيالذة عيش المستأنسين . هذه حلاوتهم في التعبد. أما حلاوتهم في الدنيا . فتلك تملأ الجوانح بالرضى بأقدار الله في الحياة . اطمئنان بما تجري به المقادير، رضىً يسكن في الخواطر ، فيقبل المؤمن على دنياه مطمئناً هانئاً سعيداً رضياً. مهما اختلفت عليه الظروف ، وتقلبت به الأحوال والصروف ، لا ييأس على ما فات ولا يفرح بطراً بما حصل. إيمان مقرون بتوكل وثبات، يعتبر بما مضى ويحتاط للمستقبل ويأخذ بالأسباب، لا يتسخط على قضاء الله، ولا يتقاعس عن العمل، يستفرغ جهده من غير قلق، شعاره ودثاره: ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ .

موقن أن «ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه» ت لو اجتمع أهل الأرض والسماوات على نفعه بغير ما كتب له فلن يستطيعوا، ولو اجتمعوا على منعه عما قدر له فلن يبلغوا. لا يهلك نفسه تحسراً، ولا يستسلم للخيبة والخذلان. معاذ الله أن يتلمس الطمأنينة في القعود والذلة ، والتخاذل والكسل، ظروف الحياة وابتلاءاتها لا تكدر له صفاءً ، ولا تزعزع له صبراً «عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، ولا يكون ذلك إلا للمؤمن» م إذا أعطي تقبل وشكر، وإذا منع رضي وصبر، وإذا أمر ائتمر، إذا نهي ازدجر، وإذا أذنب استغفر. بهذا الإيمان ينفك المؤمن من ربقة الهوى، ونزعات النفس الأمَّارة بالسوء وهمزات الشياطين وفتن الدنيا بنسائها ومالها ، وقناطيرها ومراكبها ، وسائر مشتهياتها وزينتها، سعادة وحلاوة ملؤها القناعة. ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ .

الخطبة الثانية

إن حياة الإيمان تعني الانقيادَ التام ، والتسليمَ المطلق لله ولرسوله، ونبذ المعاصي ، وتعني الولاء المطلق لله ورسوله، والعداء الصارم للكفار ولو كانوا آباءاً أو إخواناً أو أزواجاً أو عشيرة.

وليعلم كل مسلم أن الإيمان إذا استقر في القلب وذاق الإنسان حلاوته ، فإن أثر هذا الإيمان سيظهر على الجوارح، ولذلك يجب أن يعلم كل مسلم أن كل مخالفة لله في الظاهر فهي نقص في الإيمان في الباطن ، وحينها نعلم خطأ من يقول إذا أنكر عليه في أمر من الأمور الظاهرة: الإيمان في القلب، أو يقول: التقوى هاهنا ويشير إلى صدره. قال سفيان بن عيينة: كان العلماء فيما مضى يكتب بعضهم إلى بعض هؤلاء الكلمات: من أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن عمل لآخرته كفاه الله أمر دنياه .

عباد الله: الإيمان بالله منزلة علية ، تشرأب لها الأعناق، هو عدل في القول ، ووفاء بالعهد ، ونطق بالحق ، وأمساك عن الباطل ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا﴾ «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو  ليصمت». وهو خلق رفيع ، وحسن أدب مع الخالق والمخلوق: «ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء».

أيها المسلمون: الإيمان ضمان للثبات في مواقف الامتحان وهو مركب للنجاة في طوفان الفتن والمحن، به يميز الله الخبيث من الطيب ، والصادق من الكاذب ، المؤمنون حقا يتحرون الحلال في مطعمهم ومشربهم وملبسهم، لا يشربون الخمر ولا يأكلون السحت ، ولا يتعاملون بالربا ، أمرهم ربهم بالحلال فامتثلوا، ونهاهم عن الحرام فانتهوا.

عباد الله، من منا تأثر بنص شرعي ، فبادر مسرعاً لإخراج منكر من منزله؟ من منا سمع آية تتلى فبادر إلى تطبيقها ، وغير سلوكه بسببها؟. عن جابر بن سليم أنه قال لرسول الله  : اعهد إلي، قال: «لا تسبنّ أحداً»، قال: فما سببت بعدها حراً ولا عبداً ، ولا بعيراً ولا شاة .

فما بال كثير منا يتشدق بالاتباع ، فإذا جاءت الفتن ، واشتدت الكروب ، وجاء الدليل بخلاف هواه ، نكص على عقبيه ، وبدأ في تحريف النصوص ، وليِّ أعناقها ، وتحميلها مالا تحتمل ،وتتبع الرخص ، وبحث عن المخارج ، ما بالنا لانتبع قول الله  ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ ألا نخشى أن ينطبق علينا قوله تعالى ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾ لماذا لا يكون شعارنا ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ .