وداع رمضان

بسم الله الرحمن الرحيم

وداع رمضان

الخطبة الأولى

أيها المؤمنون، ها هو رمضان ولى وانصرم كأنما هو طيف خيال عابر أو سحابة صيف انقشعت لم نشعر فيه بمضي الزمان ولا بكرِّ الليالي والأيام،

تمر الحياة وتمضي السنون *** ويوم تولى ويوم ظهر

إلى أن أفل نجمه، وتوارى قمره وهو يودع الكون، مع آهات الصالحين، وبكاء المتقين، وأنين المخبتين.

بالأمس كنا نستقبل رمضان، واليوم نودِّعه، ولا ندري هل نستقبله عاماً آخر أم أن الموت أسبق إلينا منه، نسأل الله أن يعيده عليها وعليكم أعواماً عديدة وأزمنة مديدة.

عباد الله أيها المؤمنون بالله واليوم الآخر

 شهر رمضان أوشك تمامه، وقرب ختامه، ما راعنا إلا وقد قوض بنيانه وزم رحله وأزف انتقاله وأذن تحويله ولم يبق منه إلا قليل،

تصرم الشهر وا لهفاه وانصرما *** واختص بالفوز بالجنات من خدما

طوبى لمن كانت التقوى بضاعته *** في شـهره وبحبل الله معتصمـا

فليت شعري من المقبول منا فنهنيه ونبارك له، ومن المردود فنعزيه ونواسيه ونأسى له.

فمن كان أحسن فعليه بالتمام، ومن كان فرّط فليختم بالحسنى فالعمل بالختام.

فاستدركوا رحمكم الله بقيته بالمسارعة إلى الخيرات، واغتنام الفضائل والقربات.

أيها المؤمنون

 أرأيتم لو أن ضيفًا عزيزًا ووافدًا حبيبًا حلَّ في دياركم، وغمركم بفضله وإحسانه، وأفاض عليكم من بره وامتنانه، وأحبكم وأحببتموه، وألفكم وألفتموه، ثم حان وقت فراقه، وقربت لحظات وداعه، فبماذا عساكم مودعوه؟! وبأي شعور أنتم مفارقوه؟! كيف ولحظات الوداع تثير الشجون، وتُبكي المُقل والعيون، وتنكأ الجروح، ولا سيما وداع المحب لحبيبه وهل هناك فراق أشد وقعًا ووداعًا، وأكثر أسى من وداع الأمة الإسلامية هذه الأيام لضيفها العزيز ووافدها الحبيب، شهر البر والجود والإحسان، شهر القرآن والغفران والعتق من النيران، شهر رمضان المبارك، فالله المستعان.

فيا من أحسنت الاستقامة في هذا الشهر دم على ذلك فيما بقي من عمرك، ولا تفسد هذا الخير بالمعاصي والآثام، فتكون ﴿كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً﴾.

يا من أعتقه مولاه من النار، إياك أن تعود إلى المعاصي والأوزار.

يا من اعتاد حضور المساجد وعمارة بيوت الله بالطاعة وأداء صلاة الجماعة فيها، واصل هذه الخطوة المباركة، ولا تهجر المساجد ولا تقلل صلتك بالله فتكون من الغافلين.

يا من تعطر فوه في رمضان بآي القرآن يتلو كتاب ربه حتى اطمأن قلبه بذكر الله فكأني بك، وقد أخذت زاوية في مسجدك أو منزلك تتغنى بآي الكتاب، تقف عند عجائبه، وتلتقط من درره، وتقطف من ثماره، ترجو عفو ربك، وترنو إلى رحمته، مستشعرا قول نبيك صلى الله عليه وسلم، «من قرأ حرفاً من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف» رواه الترمذي وصححه

وما إن تختم حتى تعاود البدء من جديد، لا تكل ولا تمل،كيف لا ونبيك عليه الصلاة والسلام يقول: «اقرؤوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه» أخرجه مسلم

وإن كتاب الله أوثق شافع *** وأغنى غناء واهبا متفضلا

وخير جليس لا يمل حديثه *** وترداده يزداد فيه تجملا

فدونك كتاب الله تعالى، ليكن لك منه ورد يومي وليكن جليسك بعد رمضان فقد كان ذا هدي السلف المستقر، فإنه حبل الله المتين صراطه المستقيم فيه الهدى والنور والشفاء لما في الصدور.

أما الليل، وما أدراك ما الليل؟! حين يرخي سدوله، فتقبل بصفاء نفس، ونقاء قلب، لتصف الأقدام خلف الإمام، تصلي وتحيي الليل، تسمع القرآن فذرف العينان، ما تمر بوعد إلا سألت، ولا وعيد إلا استعذت، ولا ثناء إلا أثنيت وسبّحت، لم تضجر ولم تسأم من طول القيام، بل كنت ترجو المزيد، فلتهنأ ولتبشر «من قام رمضان إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه». مق

وإذا قضى الإمام قراءته وقام للوتر، رفعت يديك بتذلل وخضوع تؤمّن وترجو.

لا تملك عينيك وأنت تسمع الآية أو الدعاء، فتسارع الدمعات على صفحات وجهك ، فلله درك يوم تفوز بظل الرحمن يوم لا ظل إلا ظله حين يكثر العرق، ويعظم الزحام، وتدنو الشمس من رؤوس الخلائق، فتدخل في تلك الزمرة الطيبة: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله» وذكر منهم: «ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه»

فيا من اعتدت قيام الليل اجعل لك حظاً مستمراً من قيام الليل لو كان قليلاً ترفع فيه حوائجك إلى ربك وتكون ممن قال الله فيهم: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾. في الوقت الذي ينزل فيه الرب سبحانه وتعالى إلى السماء الدنيا كل ليلة، فينادي وهو الغني عن طاعتك وعبادتك: «هل من سائل فأعطيه؟ هل من داع فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟»

يا من ذاق حلاوة الصيام واستشعر ذلك المعنى، وهو تحقيق التقوى، فالباب مفتوح لمواصلة العمل، والصيام ليس قاصراً على شهر رمضان, فقد سن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صيام ست أيام من شوال فقال: «من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال فكأنما صام الدهر كله» وسنّ لنا أيضاً صيام ثلاثة أيام من كل شهر: «ثلاث من كل شهر، ورمضان إلى رمضان، فهذا صيام الدهر كله» رواه مسلم.

وفي الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحرى صيام الإثنين والخميس، وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ قَالَ: «ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ وَيَوْمٌ بُعِثْتُ أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ» مسلم.

يا من تعودت في هذا الشهر البذل والعطاء واصل مسيرتك الخيرة إن الله يجزي المتصدقين، وتحر في صدقتك الفقراء المعوزين والمساكين المتعففين.

وهكذا كانت حياتك ـ أيها الحبيب ـ مذ هلّ هلال شهر رمضان، صلاة وذكر، صدقة وبر صيام وقيام، خشوع وبكاء، خضوع ودعاء،.

إنك توافقني بلا تردد، أنك شعرت وتشعر بشيء غريب، لم تكن تشعر به من قبل، راحة وإيمان، أنس وطمأنينة، نعيم وسرور، قلب خاشع، ونفس منكسرة خاضعة، عيون دامعة، لسان ذاكر، جوارح مخبتة.

إنها السعادة التي يبحث عنها الكثير، الغني والفقير، الكبير والصغير، الشريف والحقير، الكل يبحث عنها، يرجوها، ينشدها.

تلك هي السعادة التي كنا نبحث عنها منذ زمن بعيد، تلك هي جنة الدنيا، قطفت من ثمارها شيئاً يسيراً، ولاحت لك أنهارها وأطيارها، فعجبت من جمالها.

فإليك رسالة تخترق التأريخ، وتشق عباب السنين، رسالة يبعثها سلف الأمة إليك ـ يا ابن الأمة ـ تقول حروفها: (إن في الدنيا جنة، من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة). وقال آخر: إنه ليمر بالقلب ساعات أقول: إن كان أهل الجنة على مثل ما أنا فيه، إنهم لفي نعيم عظيم.

فإن رمت هذه السعادة والإيمان فداوم على ما ابتدأت به في شهر رمضان وإن قل فإن «أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ» رواه مسلم، وإن العمل لا ينقطع إلا بالموت، قال الحسن البصري رحمه الله: إن الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلا دون الموت ثم قرأ: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ﴾ ، قال تعالى عن عيسى عليه السلام ﴿وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَياًّ﴾ .أي مدة بقائي حيا

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾ .

الخطبة الثانية

إخوة الإيمان، لقد كان السلف الصالح رحمهم الله يجتهدون في إتقان العمل وإتمامه، ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله ويخافون من رده

فمتى يُغفر لمن لم يُغفر له في هذا الشهر؟! ومتى يُقبل من رُدَّ في ليلة القدر؟! أورد الحافظ ابن رجب رحمه الله عن علي رضي الله عنه أنه كان ينادي في آخر ليلة من رمضان: (يا ليت شعري من المقبول فنهنيه، ومن المحروم فنعزيه).

وقد كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يكتب في نهاية شهر رمضان إلى الأمصار يأمرهم بختم شهر رمضان بالاستغفار وصدقة الفطر.

ولقد شرع الله لكم في ختام هذا الشهر المبارك عبادات تزيدكم من الله قرباً، فشرع لكم زكاة الفطر،  ودليل مشروعيتها عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: (فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ)، فهي فريضة فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين وهي زكاة البدن وطهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، ويجب أن يخرجها المسلم عن نفسه وعمن تلزمه نفقته من زوجة وأولاد، ولا يجب إخراجها عن الحمل في البطن بل يستحب ذلك.

ووقت إخراجها يبدأ بغروب الشمس ليلة العيد ويستمر إلى صلاة العيد، ويجوز تعجيلها قبل ذلك بيوم أو يومين، وتأخير إخراجها إلى صباح العيد قبل الصلاة أفضل، وإن أخر إخراجها بعد الصلاة من غير عذر أثم ولزمه إخراجها قضاءً.

ومقدارها عن الشخص الواحد صاعاً من البر أو الشعير أو من التمر أو مما يعتاد أكله في البلد كالأرز والذرة. ولا يجوز دفع القيمة لمخالفته هدي النبي صلى الله عليه وسلم وعمل الصحابة.

أيها المؤمنون بالله واليوم الآخر ، ومما يشرع أيضا في ختام هذا الشهر، التكبير ليلة العيد إلى صلاة العيد.

وصفة التكبير أن يقول: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله الله أكبر ولله الحمد.

ويسن جهر الرجال بها في المساجد والأسواق والبيوت إعلاناً لتعظيم الله وشكره.

نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يجعلنا ممن صام رمضان وقامه إيمانا واحتسابا، وأن يجعلنا من عتقائه من النار أجمعين وأن يبلغنا رمضان أعواماً عديدة وأزمنة مديدة

ثم اعلموا رحمكم الله أن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه ...

اللهم أعز الإسلام والمسلمين....

اللهم وفق ولي أمرنا....

اللهم أنت الله لا إله إلا أنت أنت الغني ونحن الفقراء....

عباد الله إن الله يأمركم بثلاث وينهاكم عن ثلاث...