واقعة السويدي

بسم الله الرحمن الرحيم

واقعة السويدي

أرى فتنة هاجت وباضت وفرخت *** ولو تركت طارت إليها فراخها

عباد الله : إذ قد امتدت يد التحريف إلى الإسلام حتى لوَّثت صفاءه، وشوهت جماله، كانت تصفيته من كل دخيل من أوجب الواجبات، ما دام الحق الذي بعث الله به نبيه  صلى الله عليه وسلم  مضمون البقاء، إلى يوم تبدل الأرض والسماء، بضمان الله القائل ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾، وإذا دب التحريف إلى قوم، وشحت مناهجهم عن التصفية، أصابتهم حيرة لا يفرقون معها بين حلال وحرام، كما في (م) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال : «ألا إن ربي أمرني أن أُعلمكم ما جهلتم، مما علمني يومي هذا : قال : إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم» .

عباد الله : إن بلدنا هذا من آمن بلاد الله، ولا يمكن أن يجد له المرءُ مثيلاً في أي مملكة من ممالك الدنيا، قال تعالى إخباراً عن إبراهيم عليه السلام أنه قال ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آمِناً﴾ قال ابن كثير : "وقد فعل الله ذلك شرعاً وقدرا كقوله تعالى ﴿وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً﴾ وقوله ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾" أ.هـ

أقول هذا تذكيراً بنعمة العافية في الأبدان، والأمن في الأوطان، التي يَحرم هتكها، أو التسبب في الإخلال بها، يقول تعالى ممتناً على قريش بها  ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ﴾ ويقول  صلى الله عليه وسلم مبيناً فضل هذه النعمة ومنزلتَها، التي لا يعرف عظم فضلها إلا من عاش في جنبات الخوف والرعب : «من أصبح منكم آمناً في سربه، معافىً في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا» .

عباد الله : نعمة الأمن ضرورة بشرية، ومطلب فطري، ومصلحة للأفراد والأمة، ولا تقوم حضارة ولا تزدهر حياة إلا به، ولذا فإن الشرع نصب الولاة والقضاة؛ لإقامة العدل، وتحقيق الأمن، وإن أعداء الإسلام يحاولون بكل وسيلة ضرب الإسلام في مقتَل، فلم يجدوا أنفع لهم من استفزاز شباب الأمة، في قوتهم ونشاطهم، لكي يستطيعوا التحكم فيهم بالتهييج السياسي، فاستجاب لهم النزاع من الشباب، فتخلقت هذا الفئة في ظلمات ثلاث : ظلمة الجهل بالشريعة، وظلمة إغلاق العقل، وظلمة الاستفزاز الخارجي، الذي لا يألوهم خبالاً ولا مكراً ولا خديعة ! فتكونت هذه الحزبية في ليل من السياسة غاسق، وسمَّوا فعلهم (جهاداً) !!

ولا أكون مبالغاً في القول : إن سبب كثرة كاثرة من البلايا والرزايا، التي منيت بها الأمة في ماضي الزمان وحاضره، وما هذه التفجيرات المدمرة، وغيرِها من فواجع أضرمت القلب، وأمرت العيش، إلا ثمرة الفكر التكفيري، وعواقبه ولواحقه .

يقول الشوكاني رحمه الله : وها هنا تسكب العبرات، ويُناح على الإسلام وأهله، بما جناه التعصب في الدين على غالب المسلمين، من الترامي بالكفر، لا لسنة ولا لقرآن، ولا لبيان من الله ولا لبرهان،  بل لِمَا غلت به مراجل العصبية في الدين، وتمكُّن الشيطان الرجيم من تفريق كلمة المسلمين، لقنهم إلزاماتِ بعضهم لبعض بما هو شبيه الهباء في الهواء، والسراب بقيعة، فيا لله وللمسلمين من هذه الفاقرة، التي هي من أعظم فواقر الدين، والرزيةِ التي ما رزئ بمثلها سبيل المؤمنين " أ.هـ

واليوم والتاريخ يعيد نفسه، قد نبتت نابتة من الشباب، لم يتفقهوا في الدين إلا قليلاً، ورأوا أن الحكام لا يحكمون بما أنزل الله إلا يسيراً، فرأوا حمل السلاح عليهم، دون أن يستشيروا أهل العلم والفقه، بل ركبوا رؤوسهم وأثاروا فتنة عمياء، وسفكوا الدماء، يقول ابن كثير : وهذا الضرب من الناس من أغرب أشكال بني آدم، فسبحان من نوع خلقه كما أراد، وسبق في قَدَره ذلك  أ. هـ

ويزعم بعض من يحسن ظنه بهؤلاء، أنهم لا يقاتلون العساكر على أساس تكفيرهم، ولكنهم في ذلك من مبدأ الدفاع عن النفس، ومع أن هذا غير صحيح بهذا الإطلاق؛ لأن العساكر لم يقاتلوا هؤلاء إلا بعد حملهم السلاح، والذي عليه أهل السنة والجماعة أن السلطان لا يقاتل ولو قتل؛ لأن القتل ليس كفراً، وقد علق النبي صلى الله عليه وسلم جواز الخروج على كفر السلطان .

عباد الله : إن ما يخاف على المسلمين من عدوهم الخارجي، لهو أقل عليهم من أنفسهم؛ فأولئك مهما أوتوا من تنظيم وقوة وبسط نفوذ، فلن يضروا المسلمين إلا أذى، وأما جناية المسلمين على أنفسهم، فقد قال تعالى في قوم كانوا مواجهين للكفار ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ﴾ فيالله : كم من دماء جرت ؟ وكم من مؤمنة ترملت ؟ وكم من فقيدة تيتمت ؟ ولو كشف لهم غطاء الحقيقة، لجأروا إلى الله تائبين، خوفاً من أن تكون هذه الدماء، كفلاً عليهم يوم القيامة ! ! .

الخطبة الثانية :

عباد الله : لقد أمر الله بالرجوع إلى أهل العلم ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ وخرج (د) من حديث ابن عباس قال : أصاب رجلا جرح في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثم احتلم، فسأل فأُمر بالاغتسال، فاغتسل فمات، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : «قتلوه قتلهم الله، ألم يكن شفاء العي السؤال» . فهذا فيمن تسبب في قتل رجل واحد، وهو بعيد عن أهل العلم؛ لأن ذلك كان في غزوة، فكيف بمن قتل أمة بفتاوى ارتجلها، والعلماء متوافرون، وهم بفتاواهم متظافرون ؟! ولقد استفحل شر هذه الطائفة، وعظمت هذه الفتنة، بما جمعت من أنواع المفاسد، فنالت من الذنوب أكابرها، وأخذت من الإفساد أعظمه، ومن ذلك :

الإفساد والتخريب في هذا البلد، معقل التوحيد، ومنطلق الدعوة، ومهبط الوحي، ومنبع الرسالة،  وذلك أعظم محاربة لدين الله في أرضه وشرعه، والخروج عن طاعة الله ، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ومن ولاه الله الأمر، واجتمع المسلمون عليه . عند (م) قال  صلى الله عليه وسلم : «من خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاش من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده، فليس مني ولست منه» .

ومنها : مصائب ورزايا، وكبائر ذنوب وبلايا، ترويع الآمنين، وتخويف المؤمنين، وقتل المسلمين، والتضييق على الموحدين، وإهلاك الأنفس، وإهدار  الأموال، مما يدل على حرمة ما فعلوه، وفساد ما اقترفوه، وضلال المنهج الذي نهجوه، وهو طريق يؤدي إلى غضب الجبار؛ حيث قال سبحانه في قتل النفس الواحدة ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً﴾ وخرج (ت) عن ابن عمر قال : صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر فنادى بصوت رفيع فقال : «يا معشر من آمن بلسانه ولم يُفْضِ الإيمان إلى قلبه : لا تؤذوا المسلمين، ولا تعيروهم، ولا تتبعوا عوراتهم» قال : ونظر ابن عمر يوماً إلى الكعبة فقال : ما أعظمك وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك  .

عباد الله : إن واجب المسلمين أن يعتصموا بالله تعالى، ويتمسكوا بمنهاج السلف الصالح، ويجتمعوا على الحق، وينبذوا التحزب والتفرق ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا﴾ وليحذر كل مسلم من الاستشراف إلى الفتن، والمشي إليها، ولينأ بنفسه عنها، وليستعذ بالله من مضلاتها وشرورها، فقد نجم بالشر ناجمها، وهجم ليفتك بالخير والعلم هاجمها، وليبتعد عن أسبابها ودعاتها، فإن هؤلاء يكثر أتباعهم والمتشبثون بهم من الغوغاء والدهماء، من الشباب أصحاب العواطف، الذين سرعان ما ينقادون للكائد، وينخدعون للصائد، ويعرضون أنفسهم في ذلك للمهالك، وأكثرهم يهلكون في تلك السبيل .

فماذا يريد من يحمل السلاح على المسلمين، أهو تغيير المنكر ؟ فما هذا والله طريقه، ولقد سبقهم إلى ذلك الخوارج، فسماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : كلاب النار . أم هو الطموح إلى مستوى من الدين أفضل ؟ فلينظروا إلى ما حولهم من الديار، وما أصابهم من الدمار، عندما سعوا إلى التغيير بغير منهاج النبوة، انظروا إلى الجزائر وما فيها من الجراح، ودونكم العراق وما يتعالى فيها من الصياح، يتمنون الرجوع إلى سابق عهدهم، ولات حين مرجع، ألا ترون أن هذه البلاد يتربص بها الأعداء في الخارج والداخل، أغاض صدورهم ما يقام فيها من التوحيد، انظروا إلى هجوم الأمريكان، وإلى مطالبات بني علمان، وإلى صرخات الرافضة، وتعالى نباح الصوفية، ألا تشكرون الله على النعمة، فبرغم ما عندنا من القصور، فلا تقارن والله بأي بقعة على وجه الأرض، من حيث التدين والصلاح . فاتقوا الله عباد الله : واستشعروا عظيم نعمته عليكم، وقوموا بواجب طاعته، والنصح لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم .