هل من رازق غير الله؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

هل من رازق غير الله؟!

الحمد لله :

عباد الله : انظروا في السماوات والأرض، وما فيهما من آيات باهرات، وآلاء ظاهرات، هل فيهما رازق غير الله ؟!

تفكروا في هذه الحياة، من بنى سماها ؟ ومن رفع سمكها فسواها ؟ ومن أغطش ليلها وأخرج ضحاها ؟ من بسط الأرض ودحاها ؟ من أخرج منها ماءها ومرعاها ؟ من نصب الجبال وأرساها ؟ من فطر النفوس وسواها ؟ من فجر العيون وأجراها ؟ ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾؟ لا والله . فما من نعمة صغرت في العيون أو كبرت، إلا والله رازقها وموليها، ورزقه سبحانه وتعالى شَمَل العباد جميعهم، برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم . فكم من أناس يصبحون ويمسون بتكذيبه سبحانه والكفر به، ونسبته للنقائص والعيوب، وهو مع هذا يرزقهم ويعافيهم ! في ( خ م ) أنه صلى الله عليه وسلم قال : «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله، يدعون له الولد، وهو يعافيهم ويرزقهم» .

ورزقه سبحانه يعيش به كل مخلوق، لا غنى له عنه طرفة عين ﴿وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ ﴿وَكَأَيِّن مِّن دَابَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾.

عباد الله : تأملوا في دواب الأرض، في برها وبحارها، في جبالها وسهولها، في ظاهرها وباطنها، في حارها وقارها، من يسوق إليها أقواتَها ؟! أم من يحمل إليها أرزاقها ؟! من الذي أوحى إلى النحل ﴿أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾؟! ومن الذي هيأ للنمل أن تحمل قوتها، وتدخره وتحفظه، وتدفع عنه الآفات ؟ ومن فطرها إذا حملت الحب إلى مساكنها كسَّرته؛ لئلا يلحقه النبات ؟ ومن جعلها تتخذ قريتها على مرتفع من الأرض؛ لئلا يفيض عليها السيل، فيخرب بيوتها، ويفسد أقواتها ؟! .

عباد الله : هذا وأمثاله كثير، يوجب على كل ذي بصيرة، أن يُعيد النظر تفكرا، ويُرجع البصر تدبرا . وهو باب يطول التأمل فيه، ولكنها إشارة يتنبه بها من غفل، ويستزيد بها من عقل . يقول الحسن البصري رحمه الله : عاملنا القلوب بالتفكر، فأورثنا التدبر، فرجعنا بالتدبر على التذكر، فأورثنا العمل

عباد الله : إن الله سبحانه أمرنا أن نتعبد له بأسمائه الحسنى، وأن ندعوه بها؛ لتعود على القلب بأسمى معاني الإيمان، وأعظم موجبات الإحسان . والرازق من أسماءه سبحانه، ترى المؤمن الحقَّ يستحضر معناه في جميع شؤونه، فتراه سليم القلب، مطمئن الفؤاد، يضرب في تكسبه، وقد فوض عاقبة جهده، إلى من بيده خزائن السماوات والأرض، ويمضي في حياته، موقناً أن ما به من نعمة فمن الله، فلا يسخر شيئاً منها إلا لما يحبه ويرضاه .

أما النفوس التي ضعف فيها التعبد لله، فتراها مقبوضة الأيدي والفؤاد، خوفاً من أن ينقطع رزقها، أو ينقص قوتها، فلا تتجاوز نظرتها ما تعده أصابع يديها، ولا يتعدى اعتمادها ما تبذله من جُهد أو جَهد .

عبد الله : أعد النظر إلى أول أمرك، لتدرك كيف كان يُدِرُّ عليك الرزق، وأنت في غفلة عما حولك، فمن الذي دبرك بألطف التدبير، وأنت جنين في بطن أمك، في موضع لا يد تنالك، ولا بصر يدركك، ولا حيلة لك في التماس الغذاء، ولا في دفع الضر والبلاء، ومن الذي أجرى لك من دم الأم ما يغذيك، وقلب ذلك الدم لبنا، حتى إذا كمل خلقك،وقوي أديمك على مباشرة الهواء، وبصرك على ملاقاة الضياء، وعظمك على التقلب في الغبراء، هاج الطلق بأمك . فيا بُعد ما بين القبول والاشتمال، حين وضعت نطفة، وبين هذا الدفع والطرد والإخراج، وقد كانت مبتهجة بحملك، فصارت تستغيث إلى ربها من ثُقْلك . حتى خرجت ضعيفاً لا قشر ولا لباس، ولا متاع ولا مال، أحوج خلق الله وأضعفهم وأفقرهم، ثم صرف ذلك الدم الذي تغذيت منه، إلى خزانتين في صدرها، تخرجه إليك لبنا نقيا !! فمن رققه لك وصفاه، وأطاب طعمه وأضفاه، فوافاك به أشد أوقات الحاجة، وجمع لك فيه بين الشراب والغذاء ؟! من هيأ لك هذا كله وسخره ؟ أتراه محض مصادفة ؟ أم تراه حكم الطبيعة ؟ لا وربي، إنما هو الله ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾. وهكذا تمر في سني عمرك، ورحمة الله لا تنفك عنك، ورزقه لا ينقطع منك، حتى إذا بلغت أشدك، وضربت في الحياة كما يضرب غيرك، قبضت الفؤاد خشية انقطاع الرزق، الذي لم يفارقك لحظة واحدة، في أشد حالات ضعفك ؟!

فاتقوا الله عباد الله، وأجملوا في الطلب، واعلموا أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها . وكِلوا أمر رزقكم إلى مولاكم عز وجل : «ولو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدوا خماصاً، وتروح بطاناً».

الخطبة الثانية :

عباد الله : ألم يأن لأولئك الذين حبستهم أنفسهم، في طريق ممقوت في طلب أرزاقهم، فتراهم يضربون فيها سبلاً لا يرضاها عنهم ربهم، ألم يأن لهم أن يستعينوا الرزاق عز وجل في طلب الحلال الطيب؛ لتطيب به نفوسهم، وتحفظ به أجوافهم، وتقبل دعواتهم، وتغفر زلاتهم ؟!

فيا من طرقت سبل الربا، ويا من تكسبت ببيع الحرام، ويا من تغذيت بالرشوة، ويا من أخذت المال من غير حقه، والله إن لك في الحلال الطيب غنية عما سواه، فلا يضيق أمام ناظريك فسيح أفقه، ولا تغب عنك عظيم بركته . واعلم أنك حين تترك ما في يديك من كسب حرام، وإن رأيته زينة وافرة، فإن الله تعالى يبدلك خيراً منه وأطيب : واعلم «أنك لن تدع شيئاً لله عز وجل، إلا أبدلك الله به ما هو خير لك منه» . قال قتادة : لا يقدر رجل على حرام ثم يدعه، ليس به إلا مخافة الله عز وجل، إلا أبدله الله في عاجل الدنيا قبل الآخرة . واقنع بما قسم الله لك، فعند (م) من حديث عبد الله بن عمرو قال صلى الله عليه وسلم : «قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً، وقنَّعه الله بما آتاه» .

ولْيَسْمُ ناظريك إلى أعظم رزق وأعلاه، ذاك الذي لا يناله إلا عباد الله المؤمنين، قال تعالى : ﴿هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ﴾ .

فإن أبيت إلا العصيان، والإصرار على الحرام والطغيان، فاسمع ماذا أعد الله لهؤلاء : ﴿هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ

فاتقوا الله عباد الله، وخافوا بطش من نواصيكم بيده، وقلوبُكم في قبضته، وأرزاقكم في خزائنه، فاللهم اغننا بحلالك عن حرامك، وبفضلك عمن سواك، اللهم ارزقنا رزقاً دارا، وأمنا قارا، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك .