الإمام محمد بن عبدالوهاب

بسم الله الرحمن الرحيم

الإمام محمد بن عبدالوهاب

فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فتقوى الله عليها المعوّل، وعليكم بما كان عليه السلف الصالح والصدر الأول .

أيها المسلمون: أكرم الله هذه الأمة ببعثة خير الأنام ، فدعاهم إلى توحيد الخالق العليم ، وأرشدهم إلى الصراط المستقيم ، فدخلوا في دين الله القويم ، فتوحدت كلمتهم ، وقويت شوكتهم ، وعز سلطانهم ، وخفقت راياتهم، فدانت لهم الأمم .

 وتعاقب أفواج الدعاة المصلحين ، علماء مخلصون ، مربون ربانيون، من خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشدين، وورثته من العلماء العاملين ، داعين إلى الحق ، حاكمين بالقسط، آمرين بالمعروف، ناهين عن المنكر . فحري بنا عباد الله أن نربي شبابنا على حب هؤلاء ، وأن نعظم في نفوس أبنائنا سيرهم ، ليقتدوا بهم في علمهم ، ويقتفوا آثارهم في عملهم ، ويترسموا خطواتهم في دعوتهم .

إن دراسة حياةِ أسلافنا ، تورث الإحساس بالعزة، وتنبت الشعور بالقوة، وتهدي إلى التمسك بالحق، وتقود إلى السمو في الخلق، وتفتح الأبواب العريضة من الآمال . ومن خلال النظر في هذه السير ، يتبين أن الدنيا كلما احلولكت فيها ظلم الجهالة، وخاض الناس معها لجج الباطل، وخيمت سُحب البدع ، قيض الله رجالاً، وسدد دعاة ، يدعون إلى الله على بصيرة، ينيرون الطريق، ويحيون السنن، ويبسطون الحق، فتصلح على أيديهم بإذن الله القلوب ، ويتطهر بذلك العباد ، ويعم الأمنُ البلاد .

وفي فترة من فترات تاريخ الأمة ، غشيت الدينَ غاشيةٌ سوداء ، فإذا التوحيد الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم قد تلبسته أنسجةُ الخرافة، وقشورُ التصوف، وكثر الأدعياء الجهلاء، وتلبّدت عقول كثير من المسلمين بالذلة والمسكنة، فأحاطت بأعناقهم التمائمُ والتعاويذ، وقيدت سواعدهم الخيوط والأوهام، وتعلقوا بالقبور وأصحابها، وفشا فيهم التنجيم والسحر ، والتطير والكهانة، وغابت شمس الحق عن كثير من النفوس ، حتى هبطوا مهبطًا بعيد القرار.

في هذه الأجواء القاتمة ، انطلق صارخٌ من قلب الجزيرة ، يدعو إلى تجريد التوحيد ، ويبين حق الله على العبيد ، يدعو إلى الطهر والصلاح، ويرد الناس إلى ما كان عليه أهل الفلاح ، إنه صوت الصالح المصلح ، الإمامِ شيخِ الإسلام محمدِ بن عبد الوهاب رحمه الله . من أوفر المصلحين حظًا في ميدان الدعوة، ومن أرجحهم كفة في سبيل الإصلاح، طبَّقت شهرته الآفاق، وكتب عنه القاصي والداني، وردّدت سيرتَه ألسنةٌ وأقلام ، من الغرباء وذوي القربى، ومن المسلمين وغير المسلمين .

لقد وهبه الله قوة في النفس، وصدعًا بالحق، وتأثيرًا في السامعين، في صبر ومثابرة، وحسن ظن بالله، وصدق في التعلق به، برع في علوم الدين واللسان، وفاق الأقران، واشتهر بالتقوى وصدق التديُّن. معتقده الدين الخالص ، على مذهب السلف الصالح ، ما جاء بجديد ، ولا دعا إلى أمر غريب ، لا يخوض في تأويل، ولا يتعمق في فلسفة، يتبع الكتاب والسنة ، بفهم سلف الأمة .

دعوته توحيد الله ، في ربوبيته وإلاهيته ، وأسمائه وصفاته، رافعاً لا إله إلا الله محمداً رسولَ الله، يوضّح معانيها ، ويبسط القول فيها ، في مختصراته ومطولاته ، ولجميع أفراد المجتمع وفئاته . دعوة حنيفية ترسمت خطو الراشدين من الخلفاء ، وأحيت ما اندثر من علوم الكتاب ومأثور السنة، صححت في العقيدة المسار، وخلّصتها من شوائب البدع ؛ تذكر الغافلين، وتعيد الشاردين، وتجادل المنحرفين، وترد كيد الكائدين . ولقد أفرد الشيخ المتعلقين بالقبور والأضرحة بخطاب خاص، لما لحظه من عموم الابتلاء بهذا الداء ، في أصقاع كثيرة من بلاد المسلمين ، فقد دُعي غير الله، وتعلّقت الآمال في كشف الكروب ودفع المصائب بغير الله، وارتفعت الأصوات تجأر بطلب الغوث من غير الله ، تحت أعتاب الأضرحة المشيدة، وفي مسوح القباب الشاهقة. عباد الله : ولئن كانت للشيخ هذه الوقفة الصارمة ، من القبور والمشاهد ، فلقد كان شمولي النظرة لأصول الإسلام وفروعه ، فلقد كان يمشي في ركاب الإسلام كله ، من الحكمِ بما أنزل الله، وإقامةِ حدود الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإصلاح النفس ومحاسبتِها، والاستقامة على أمر الله ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾ ولقد كان شموليًا في طبقات المدعوين ، فاهتم بالعامة و بالخاصة، لم تشغله فئة عن فئة، فوضع لكلٍ ما يناسبها، وحدَّث كل طبقة بما يلائمها . فهل يعي هذا دعاة اليوم ؟! ويسلكوا الطريق نفسه ، ويسيروا على تلك الجادة ؟

الخطبة الثانية

فقد ولد الشيخ في عصر انتشرت فيه الخرافات ، ونسيت العقيدة وكثرت الجهالات ، فلما رأى ذلك ، قام يرد على تلك الضلالات ، وينير مصابيح الهدى في دياجير الظلمات ، فتبعه من أراد الله هدايته ، وحاربه من كتب الله غوايته ، وأوذي الشيخ أشد الأذى ، وعانى أشد المصائب ، وقاسى أعتى المصاعب ، ومازال مستمراً في طريقه ، غير مبال بمخالفة ذوي الأهواء ، واستفزازات أهل المطامع . ووضع المناوؤون لدعوته لقباً ينبزونها به،إنه الوهابية ، فلم يزالوا يلوكون ذلك ، حتى اقترنت في أذهان البعيدين عنها بالخروج عن الإسلام، وبغض الأئمة . ولئن كانت تلك إشاعات الأبعدين ، فلقد سار في دربهم بعض الأقربين ، وأصبحنا نسمع بين الحين والحين ، من بعض المفكرين ، من يشكك في دعوة الشيخ ، ويصمها بتكفير المسلمين ، والتشدد في الدين ، وهم يحسبون على هذا البلد وأبنائه ، ممن رضعوا كتاب التوحيد مع ألبان الأمهات ، فما بالهم اليوم لها يتنكرون ؟ وفي صميمها يطعنون ؟ وعلى أئمتها يفترون ؟ أشرقهم والله التوحيد ، وغشيهم من الحقد ما غشيهم ، على دعوة كثر أتباعها ، وازداد في الأمصار أنصارها ، وهم يمنون النفس بزوالها ، ويترقبون القضاء عليها . فلما شرقت صدورهم ، وطال ليلهم ، ورأوا أن الفرصةَ سانحةٌ للانقضاض على عدوهم ، أظهروا مكنون أفئدتهم ، وأزالوا الأقنعة عن كالح وجوههم ، وكشروا بأنيابهم ، فتقأيوا في الصحف مقالات ، و في القنوات لقاءات ، ألا يفرقون بين الزُّبد والزَّبد ؟ وبين ما ينفع الناس والغثاء ؟ أما علم المساكين أن الله ناصر أولياءه ؟ وأنه متم نوره ﴿وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ﴾ فليتق الله أقوام همهم هدمُ الدعوة ، والطعنُ في أعلامها «من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب» وفي مقابل ذلك ، يمدحون أهل البدع والخرافة ، ويدعون بأنهم أهلُ السماحة ، سلم منهم اليهود والنصارى ، والفلاسفةُ الحيارى ، وأهلُ الزيغ والضلال ، وأصحابُ الأهواء والانحلال ، وتركوا كل زنديق ، وصوبوا سهامهم نحو أهلِ التحقيق .

ولينظر أولئك إلى من سبقهم في هذا المجال ، يوم سخروا طاقاتهم ، وجيشوا جيوشهم ، وغزو الشيخ في عقر داره . فرفع الله قدره يوم رفع راية التوحيد ، وأعلى مكانه يوم تمسك بها ، و نشر الله دعوته ، وتوافر أئمتها ، وكثر طلابها ، من أبناء هذا البلد غيره ، ممن نصر الله بهم السنة ، وقمع بهم البدعة ، فما زاده هجومهم إلا رفعة ، وما أصابهم إلا مهانة وذلة . فليجرد كل منا قلمه ، وليشحذ قريحته ، وليكاتب أهل الحل والعقد ، من العلماء والولاة ، مطالباً بقمع هذا الباطل ، داعياً لنصر السنة وأهلها .

فاللهم انصر دينك وكتابك وعبادك الصالحين .