خطر القدح في العلماء

بسم الله الرحمن الرحيم

خطر القدح في العلماء

فلقد مر بنا فيما مضى من الأيام ، فتنة عظيمة ، وجرم خطير ، تمثل في قتل بعض الأنفس ، وإتلاف بعض الممتلكات ، وترويع الآمنين ، وإخلال الأمن في بلاد المسلمين . وأياً كان الفاعل ، ومهما كان الدافع ، فإن الإقدام على مثل هذه الأعمال ، جريمة عظيمة ، يحرمها الشرع ، وينكرها العقلاء .

ولقد تردد في كثير من المجالس ، وعبر العديد من المنتديات ، طرح أسباب هذه الجريمة ، وركز البعض على دور العلماء ، وأخص هيئة كبارهم . لكن الذي يندى له الجبين ، وتدمع له العين ، أن تشم رائحة ازدراء العلماء وتنقصهم ، من أناس يحسن الظن بهم ، وفي مجتمعات شب أهلها وشاب ، على توقير العلماء ، وكان ذلك من الأمور المسلمة ، ومن الثوابت الراسخة . فسمعة العلماء الطيبة بالألسن مذكورة ، وهيبتهم في الصدور محفوظة ، لكن الشيطان لا يهدأ له بال ، ولا يستقر له قرار ، فلبس على بعض الناس وأوحى إليهم من زخارف القول ، حتى خلعوا جلباب الحياء ، وبدأوا يصرحون بانتقاص العلماء ، ووصفوا بعضهم بأوصاف قبيحة . فقالوا هيئة كبار العملاء ، ووصموهم بعلماء السلطان ، وببائعي الفتاوى ، وبالسذج المغفلين ، ولقد أصبحت أعراض العلماء عند بعض الناس كلأ مباحاً ، يقع فيه متى شاء ، وكيف يشاء ، ولست أدري أي خير يبقى في الأمة بعد علمائها ولقد قال الله : ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ قال الإمام الآجري رحمه الله تعالى : إن الله – عز وجل وتقدست أسماؤه – اختص من خلقه من أحب ، فهداهم للإيمان ، ثم اختص من سائر المؤمنين من أحب ، فتفضل عليهم ، فعلمهم الكتاب والحكمة، وفقههم في الدين ، وعلمهم التأويل ، وفضلهم على سائر المؤمنين ، وذلك في كل زمان وأوان ، رفعهم بالعلم ، وزينهم بالحلم ، بهم يعرف الحلال من الحرام ، والحق من الباطل ، والضار من النافع ، والحسن من القبيح ، فضلهم عظيم ، وخطرهم جزيل ، ورثة الأنبياء ، الحيتان في البحار لهم تستغفر ، والملائكة بأجنحتها لهم تخضع ، مجالسهم تفيد الحكمة ، وبأعمالهم ينزجر أهل الغفلة .  هم أفضل من العباد ، وأعلى درجة من الزهاد ، حياتهم غنيمة ، وموتهم مصيبة ، يذكرون الغافل ، ويعلمون الجاهل ، لا يتوقع لهم بائقه ، ولا يخاف منهم غائلة . من أطاعهم رشد ، ومن عصاهم عند ، ما أشكل على قضاة المسلمين من حكم فبقول العلماء يحكمون ، وعليه يعولون ، فهم سراج العباد ، ومنار البلاد ، وقوام الأمة ، وينابيع الحكمة ، هم غيظ الشيطان ، بهم تحيا قلوب أهل الحق ، وتموت قلوب أهل الزيغ ، مثلهم في الأرض كمثل النجوم في السماء ، يهتدى بها في الظلمات .

وقال الشاطبي رحمة الله تعالى : إن الله سبحانه شرف أهل العلم ، ورفع أقدارهم ، وعظم مقدارهم ، ودل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع ، بل قد اتفق العقلاء على فضيلة العلم وأهله ، وأنهم المستحقون شرف المنازل ، وهو مما لا ينازع فيه عاقل ، واتفق أهل الشرائع على أن علوم الشريعة أفضل العلوم وأعظمها أجراً عند الله يوم القيامة . إذا ثبت هذا فأهل العلم أشرف الناس ، وأعظم منزلة بلا إشكال ولا نزاع .

عباد الله : إن عدم إدراك مكانة العلماء ، أدى ببعض الناس إلى تجاوز الإعراض عنهم ، إلى الطعن فيهم ، وسوء الظن بهم ، وهم لا يدركون فداحة الخطأ الذي يرتكبونه ، فإنه يؤدي إلى وبال عظيم ، حيث يفسد دين الناس .

والقدح في العلماء إيذاء لهم ، والإيذاء للعلماء إيذاء لأولياء الله الصالحين ،ففي (خ) عن أبي هريرة  رضي الله عنه  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي  «من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب».

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى : لا يحكم لإنسان آذى ولياً ، ثم لم يعاجل بمصيبة ، في نفسه أو ماله أو ولده ، بأنه سلم من انتقام الله منه ، فقد تكون مصيبته في غير ذلك مما هو أشد عليه ، كالمصيبة في الدين مثلاً .

قال الإمام الطحاوي رحمه الله: وعلماء السلف من السابقين ، ومن بعدهم من التابعين ، أهل الخير والأثر ، وأهل الفقه والنظر ، لا يذكرون إلا بالجميل ، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل .

قال ابن المبارك رحمه الله : حق على العاقل أن لا يستخف بثلاثة : العلماء ، والسلاطين ، والإخوان ، فإنه من استخف بالعلماء ذهبت آخرته ، ومن استخف بالسلطان ذهبت دنياه ، ومن استخف بالإخوان ذهبت مرؤته  .

والاستهزاء بأهل العلم والفضل ، وتعييرهم والقدح فيهم خطر على دين المرء ، إذ قد يفضي بصاحبه إلى مالم يكن بحسبانه ، فلقد قال رجال من المنافقين : ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء ، أرغب بطوناً ، ولا أكذب ألسنا ، ولا أجبن عند اللقاء ، فقال الله ﴿قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ (65) لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ . اللهم أرنا الحق ........

الخطبة الثانية

فهناك شبه راجت على بعض الناس ، ورددها الكثير هداهم الله ، فإذا قلت لهم ، مالكم في أعراض العلماء تقدحون ، ولنواياهم تتهمون ؟ قالوا : لأنهم بكلمة الحق لا يصدعون ، ولأبوابهم يقفلون ، ولنا لا يستقبلون ، وللواقع لا يفقهون ، وللشباب بالتسرع يتهمون .

قيل لهم : أما اتهامكم لهم بعدم الصدع بكلمة الحق ، فالذي يعلمه العقلاء والمنصفون ، أنهم يذهبون للولاة ، وينصحونهم لهم ويبينون ، فقد يستجاب لهم ، وقد لا يستجاب ، ولقد دفع الله بهم كثيراً من الشرور ، ودرأ الله بهم كثيراً من الفتن ، ويصدرون الفتاوى ، التي يدينون لله بها . فهل تريدونهم يخبرونكم بكل ما يفعلون ؟ فإن قالوا : لكن الواقع لم يتغير ، فلم يوقف صحفي تجرأ على الدين ، وقد حرموا التأمين وعُمل به ، وطالبوا بفصل الرئاسة عن المعارف ولم يُسمع لقولهم . قيل لهم : فماذا تريدونهم بعد ذلك يفعلون ؟ قالوا : نريدهم من مناصبهم يستقيلون ، وبكلمة الحق على المنابر يصدعون ، قيل لهم : إذا قال العلماء  للناس : لم يستجب لنا الولاة ، وبأقوالنا لا يأخذون ، فكيف سيكون الحال ؟ إذا كانوا الآن يأمرون بالسمع والطاعة ، ولزوم الجماعة ، ويحرمون التفجيرات ، وقد رأيتم برغم ذلك ما رأيتم ، فكيف سيكون الأمر لو قالوا ما تريدون ؟ وإذا طالبتموهم بالاستقالة ، فمن تريدون المفتين ؟ ومن البديل لهيئة كبار العلماء ؟ الرافضة أو الصوفية ؟ الإسماعيلية أو الأشعرية ؟

وثمة شبهة أخرى ، أسقطت مكانة كبار العلماء  ، وهي قولهم بأنهم لا يفقهون الواقع ، فنقول : بفقه الواقع ماذا تقصدون ، أهو المستمد من الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة ، فلقد علمتم أنهم العلماء الربانيون ، ولقد اتهمتموهم بأنهم علماء الحيض والنفاس ، ولقد أعظمتم والله الفرية ، وقلتم كما رُوي أن أحد المبتدعة كان يريد تفضيل علم الكلام على الفقه ، فكان يقول : إن علم الشافعي وأبي حنيفة جملته لا يخرج من سراويل امرأة . وإن كان فقه الواقع ، هو المستمد من قنوات يقولون ، أو من وسائل إعلام يسيطر عليها الموساد ، وتسيرها بروتوكولات صهيون ، فقد ألبستموهم تاج الوقار ، وزكيتموهم من حيث لا تشعرون ، واستمع يا من تفقه الواقع : جاء في بعض بنود مخططات اليهود ما نصه : وقد عنينا عناية عظيمة بالحط من كرامة رجال الدين ، في أعين الناس ، وبذلك نجحنا في الإضرار برسالتهم ، التي كان يمكن أن تكون عقبة كؤوداً في طريقنا ، وإن نفوذ رجال الدين على الناس ليتضاءل يوماً فيوماً . ألا ترى أنك بقدحك في العلماء تخدم اليهود ؟

والشبهة الثالثة : أن العلماء لا يستقبلون الشباب ، ويغلقون في وجوههم الأبواب ، قيل : متى ذهبتم للعلماء ؟ حتى يعلمون بأنكم طلاب حق ، هل ذهبتم إليهم في الرخاء ، هل حضرتم دروسهم ، هل تسابقتم إلى محاضراتهم ، هل أظهرتم لهم التقدير والاحترام ، وأنزلتموهم المكانة اللائقة ، والمنزلة الرفيعة ، أم تركتموهم في مؤخرة الركب ، وفي ذيل القافلة ، فاثنوا عندهم الركب ، وزاحموا عندهم بالأكتاف ، ثم اطلبوهم ، وانظروا ماذا يفعلون .

أما اتهامهم لكم بالتسرع ، فإنها أتت من واقع عايشوه ، ومن أحداث عاصروها ، يذهب الشاب إلى الشيخ ، فينقل له منكراً حصل ، أو مخالفة وقعت ، ثم يصر عليه ، كأنما يحادث أخاه الصغير ، ماذا ستفعل ؟ وقد جئتك قبل ذلك ولم تغير ، بلهجة مستهجنة ، وبصوت عالٍ ، لا يقدرون شيبة ، ولا يوقرون علماً ، إنما هو التهكم والسخرية ، وهز الرأس  وتقطيب الجبين ،  عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ليس منا من لم يجل كبيرنا ، ويرحم صغيرنا ، ويعرف لعالمنا حقه» قال علي رضي الله عنه: من حقّ العالم عليك  إذا أتيته ، أن تسلِّم عليه خاصَّة، وعلى القوم عامّة، وتجلس قُدَّامه، ولا تشِرْ بيديك، ولا تغمِزْ بعينَيك، ولا تقُلْ: قال فلان خلافَ قولك ،  ولا تكثرْ عليه بالسؤال، ولا تُعنِّته في الجواب، ولا تُلحَّ عليه إذا كسَل، ولا تأخذْ بثوبه إذا نهض، ولا تفشينّ له سرًّا، ولا تغتابنّ عنده أحدًا، ولا تطلبنّ عثرته، وإن زلّ قبلت معذرته، وعليك أن توقّره وتعظّمه لله ، ما دام يحفظ أمر الله، ولا تجلس أمامه، وإن كانت له حاجةٌ سبقت القوم إلى خدمته ، فإنّه بمنزلة النخلة المُرطبة التي لا يزال يسقط عليك منها شيء ، و من استخف بالعلماء ذهبت آخرته  .

فعلى الناشئة وطلاب العلم ،وكل محب لدينه ، ناصح لأمته ، و كل من انبرى لتربية الشباب ، وفرغ نفسه للدعوة ، وتبوأ في المجتمع مكانة ،أن يجمع على العلماء القلوب ، فالاجتماع عليهم ، خير من التفرق على غيرهم . أليس توحيد مصدر التلقي ، هو المخرج من الفرقة والشتات ، وتذكر حالنا يوم اجتمع الناس على الشيخ محمد بن إبراهيم ، وعلى الشيخ عبدالعزيز بن باز ، رحم الله الجميع ، بالرغم من وجود منكرات في وقتيهما ، فهم بشر يخطئون ويصيبون ، وهم بلا شك غير معصومين ، والتقصير منهم حاصل ، ولن يبلغوا درجة الكمال .