النصارى

بسم الله الرحمن الرحيم

النصارى

الحمد لله الذي ظهر لأوليائه بنعوت جلاله، وأنار قلوبهم بمشاهدة آثار صفات كماله، وتعرف إليهم بما أسداه إليهم من إنعامه وإفضاله، فعلموا أنه الواحد الأحد الصمد، الذي لا شريك له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، بل هو كما وصف به نفسه، وفوق ما يصفه به أحد من خلقه، لا يحصي أحد ثناء عليه، الأول الذي ليس قبله شيء ، والآخر الذي ليس بعده شيء ، والظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الأشباه والأمثال، وتقدس عن الأضداد  والشركاء والأشكال، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا راد لحكمه، ولا معقب لأمره، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، القائم بحقه، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وبعد :

عباد الله : إذا كان التاريخ قد حفظ لليهود عداءهم للإسلام، منذ اليوم الأول الذي دخل فيه المدينة، في صورة كيد لم ينته ولم يكف حتى اللحظة الحاضرة، في حقد خبيث، وكيد لئيم، فإن هذا التاريخ  قد حفظ كذلك للنصارى الصليبيين، أنهم اتخذوا من الإسلام موقف العداء، منذ وقعة اليرموك، بين المسلمين والروم، ولقد تجلت أحقاد الصليبية على الإسلام وأهله، في الحروب الصليبية، طوال قرنين من الزمان، كما تجلت في حروب الإبادة التي شنتها الصليبية على الإسلام والمسلمين في الأندلس، ثم في حملات الاستعمار والتبشير، على الممالك الإسلامية في العالم كله  .

ولقد ظلت الصهيونية والصليبية العالميتان، حليفتان في حرب الإسلام، رغم كل ما بينهما من أحقاد، ولكنهم في حربهم على الإسلام كما قال عنهم الحكيم الخبير ﴿بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ حتى مزقوا دولة الخلافة، ثم مضوا في طريقهم ينقضون هذا الدين عروة عروة .

عباد الله : إن قلوب الصليبيين التي أبغضونا بها لا تزال في صدورهم،  وإن أسلحتهم التي حاربونا بها لا تزال في أيديهم، وإن الحقد الذي أعماهم يوم جاءونا غزاة مستعمرين، لا تزال تغلي مراجله في صدورهم . إن المعارك التي يخوضها أعداء الإسلام من النصارى الصليبين في العراق وأفغانستان، والروس المعتدين في الشيشان،  واليهود الغاصبين في فلسطين، والهندوس الوثنيين في كشمير، إنها  في حقيقتها معركة عقيدة ودين ﴿وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ ﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا﴾ بينما السذج من المسلمين يحسبون أنها مصالح شخصية، أو معارك طائفية، لا علاقة لها بالمعركة المشبوبة مع هذا الدين .

عباد الله : هذا ما ينبغي أن يعيه الواعون، فلا ينساقون وراء حركات التمييع الخادعة. فإلى الذين يمجدون الغرب في كل شيء، في عقولهم وأخلاقهم، وأنهم دعاة السلام، يقال :

إنه لما بعث الله عبده ورسوله وكلمته المسيح ابن مريم، فجدد للناس لهم الدين، وبين لهم معالمه، ودعاهم إلى عبادة الله وحده، والتبرؤ من تلك الأحداث والآراء الباطلة، فعادَوه وكذبوه، ورموه وأمه بالعظائم، وراموا قتله، فطهَّره الله تعالى منهم، ورفعه إليه . وأقام تعالى للمسيح أنصاراً دعوا إلى دينه وشريعته، حتى ظهر  على من خالفه، ودخل في دينه الملوك، وانتشرت دعوته، واستقام الأمر على السداد بعده نحو ثلاث مائة سنة . ثم أخذ النصارى بتبديل دين المسيح وتغييره، حتى تناسخ واضمحل، ولم يبق بأيديهم منه شيء .

واجتمعوا عدة مجامع، تزيد على ثمانين مجمعاً، يتفرقون على الاختلاف والتلاعن، حتى قال فيهم بعض العقلاء : لو اجتمع عشرة من النصارى يتكلمون في حقيقة ما هم عليه، لتفرقوا عن أحد عشر مذهبا .

عبد الله : فهذه حال المتقدمين منهم، مع قرب زمانهم من أيام المسيح، ووجود أخباره فيهم، والدولة دولتهم، والكلمة كلمتهم، وعلماؤهم إذ ذاك أوفر ما كانوا، وهم حيارى تائهون، ضالون مضلون، لا يثبت لهم قدم، ولا يستقر لهم قول، بل كل منهم اتخذ إلهه هواه، وصرح بالكفر والتبري ممن اتبع سواه، وقد تفرقت بهم في نبيهم وإلههم الأقاويل، فهم كما قال الله ﴿قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ﴾ فما ظنك بمن في عصرنا هذا ! وهم نخالة الماضين، وزبالة الغابرين، ونُفاية المتحيرين ؟! .

الخطبة الثانية :

عباد الله : من المعلوم أن  الأمة الصليبية ارتكبت أمراً عظيماً، حيث تنقصت الخالق وسبته، ورمته بالعظائم،  فزعموا أنه سبحانه وتعالى : نزل من العرش عن كرسي عظمته، ودخل في فرج امرأة، وأقام هناك تسعة أشهر، ثم خرج من حيث دخل رضيعاً صغيراً، يبكي ويجوع ويعطش، ويحمل على الأيدي والعواتق،  إلى أن لطمت اليهود خديه، وربطوا يديه، وبصقوا في وجهه، وصفعوا قفاه، وصلبوه جهراً بين لصين، وسمروا يديه ورجليه، وجرعوه أعظم الآلام، هذا وهو الإله الحق، الذي بيده أتقنت العوالم، وهو المعبود المسجود له .! ولم يقنعهم هذا القول في رب السماوات والأرض، حتى اتفقوا بأسرهم، على أن اليهود أخذوه، وساقوه بينهم ذليلاً مقهوراً، وهو يحمل خشبته التي صلبوه عليها، واليهود يبصقون في وجهه، ويضربونه، ثم صلبوه وطعنوه بالحربة حتى مات، وتركوه مصلوباً، ثم دفن، وأقام تحت التراب ثلاثة أيام، ثم قام من قبره . وهذا قول جميعهم، وليس فيهم من ينكر منه شيئاً .

فيا للعقول ! كيف كان حال هذا العالم  في هذه الأيام الثلاثة ؟ ومن كان يدبر أمر السماوات والأرض ؟ ومن الذي خلف الرب سبحانه وتعالى في هذه المدة ؟ ومن الذي كان يمسك السماء أن تقع على الأرض، وهو مدفون في قبره ؟! ويا عجباً أي قبر وسع إله السماوات والأرض ؟

ولعمر الله، إن هذه مسبة لله سبحانه، ما سبه بها أحد من البشر قبلهم ولا بعدهم ﴿تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَداًّ﴾ وكما قال تعالى، فيما يحكي عنه (خ أبو هريرة) «شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، أما شتمه إياي، فقوله : اتخذ الله ولداً، وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد، ولم يكن لي كفواً أحد، وأما تكذيبه إياي، فقوله : لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته» . وقال عمر بن الخطاب في هذه الأمة : أهينوهم ولا تظلموهم، فلقد سبوا الله عز وجل، مسبة ما سبه إياها أحد من البشر .

وإن تعجب فعجب! أنهم يقرؤون في التوراه " ملعون من تعلق بالصليب" وهم قد جعلوا شعار دينهم ما يُلعنون عليه، ولو كان لهم أدنى مسكة عقل؛ لكان الأولى بهم أن يحرقوا الصليب حيث وجدوه ويكسروه، فإنه قد صلب عليه إلههم ومعبودهم بزعمهم، وأهين عليه .

ويا للعجب ! بأي وجه بعد هذا يستحق الصليب التعظيم، لولا أن القوم أضل من الأنعام . ولو عقلوا لكان ينبغي أن لا يحملوا صليباً، ولا يمسوه بأيديهم، ولا يذكروه بألسنتهم، وإذا ذكر لهم سدوا مسامعهم عن ذكره .

عباد الله : إن هؤلاء النصارى جمعوا بين الشرك وسب الإله، و تنقص نبيهم وعيبه، ومفارقة دينه بالكلية، فلم يتمسكوا بشيء مما كان عليه المسيح، لا في صلاتهم ولا في صيامهم، ولا في أعيادهم، بل هم في ذلك أتباع كل ناعق ، مستجيبون لكل  مبطل .

والمقصود أن دين الأمة الصليبية بعد أن بعث الله عز وجل محمداً ، بل قبله بنحو ثلاث مائة سنة، مبني على معاندة العقول والشرائع، وتنقص إله العالمين، ورميه بالعظائم، فكل نصراني لا يأخذ بحظه من هذه البلية، فليس بنصراني على الحقيقة .!! أفليس هو الدين الذي أسسه أصحاب المجامع المتلاعنون،  على أن الواحد ثلاثة، والثلاثة واحدا ؟! فيا عجباً ! كيف رضي العاقل أن يكون هذا مبلغ عقله، ومنتهى علمه !!

أعبـاد المسيح لنا سـؤال *** نـريد جـوابه ممن وعاه

إذا مات الإله بصنع قـوم *** أماتــوه فمـا هذا الإله

وهل أرضاه ما نالوه منـه *** فبـشراهم إذا نـالوا رضاه

وإن سخط الذي فعلوه فيه *** فقــوتهم إذاً أوهت قواه

وهل بقي الوجـود بلا إله *** سميـع يستجيب لمن دعاه

وهل خلت العـوالم من إله *** يدبرها وقد سـمرت يداه

تعالى الله عن إفك النصارى *** سيسأل كـلهم عما افتراه

ولكن العجب  كل العجب فيمن يقول من الغافلين من المسلمين : إن اليهود والنصارى إخواننا، ولا يكنون لنا العداوة والبغضاء,  والله تعالى يقول ﴿وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ وإن اليهود والنصارى يحترمون ديننا ويعظمونه، والله تعالى يقول ﴿وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾ .

الحمد لله، ثم الحمد لله، الذي هدانا للإسلام، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله . اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، كما هديتنا للإسلام، نسألك أن لا تنزعه عنا حتى تتوفانا عليه .