الرسول صلى الله عليه وسلم معلماً

بسم الله الرحمن الرحيم

الرسول صلى الله عليه وسلم معلماً

الحمد لله :

عباد الله : إن أمتكم خير أمة أخرجت للناس، الصدارة منزلتها، والقيادة مرتبتها، ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾ إن مصدر أصالة الأمة، ومنبر توجيهها، ومنار تأثيرها، هو التمسك بتعاليم دينها ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ هكذا أراد الله لها إن استقامت على النهج، وقامت بالحق . وإن أمة رفع الله من شأنها، ليس لها أن تنحدر إلى مستوى التقليد والتبعية، وإن أمة قد وضَحَت لها المعالم، من السفاهة أن تطلب الحق من معالم غيرها .

عباد الله : إن أعظم منة منَّ الله بها على هذه الأمة، أن بعث فيهم رسولاً منهم، مبشراً ونذيراً، ومعلماً ومرشداً ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ حين دعا إبراهيم عليه السلام لذريته من بعده، دعا لهم بكل خير، ولم ينس أن يسأل الله لهم المعلم الناصح، والمرشد الموجه ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ فلما بعث الله هذا الرسول، جعله قاطعاً للعذر، مقيماً للحجة، وما مات  صلى الله عليه وسلم  حتى علم الناس كل شيء، خرج (حم) عن أبي ذر قال : لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم  وما طائر يحرك جناحيه في السماء، إلا ذكر لنا منه علما .

إن التعليم عباد الله : ليس مقصوراً على جانب من جوانب الحياة، بل إن الحياة كلُّها مدرسة، وإن مستوى التعليم في زماننا، لم يضعف، ولم يتداع بنيانه، إلا حينما قصرْناه على جوانب محدودة . إنه ليس مقصوراً على مدرسة تفتح ثم تغلق، أو دورة تبدأ ثم تنتهي، أو محاضرة تلقى ثم تنسى، إن الحياة كلُّها مجال التعليم، البيت مدرسة، المسجد مدرسة، السوق مدرسة، الأب مدرسة، الأم مدرسة، كل واحد من الناس مدرسة في أخلاقه وتصرفاته . ولقد أفنى رسول الله صلى الله عليه وسلم  عمره كله، في سبيل تعليم أمته، ونشر دين ربه، فكان يعلم الناس على جميع أحواله، في مسجده، في خطبته، في موعظته، طريقه مدرسة، مجلسه مدرسة، بيته مدرسة، ولهذا كان الصحابة إذا اختلفوا في شيء ذهبوا إلى بيوته، يسألون زوجاته عن عمله . كان صلى الله عليه وسلم يمشي ومعه الحسن بن علي، فوجد تمرة فأخذها الحسن، فقال صلى الله عليه وسلم : «كَِخْ كَِخْ، أما علمت أنا لا تحل لنا الصدقة» . وكان صلى الله عليه وسلم يعلم الناس وهو واقف على ناقته، في (خ) أنه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنى كان الناس يسألونه، فما سئل عن شيء قدم ولا أخر إلا قال : «افعل ولا حرج» ولقد كان صلى الله عليه وسلم  لا يدع فرصة للتعليم إلا اغتنمها، يقول ابن عباس : كنت يوماً خلف النبي صلى الله عليه وسلم على الدابة، فقال لي :يا غلام، إني أعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك ...الحديث . ويقول أنس كما في (خ م) : كان النبي صلى الله عليه وسلم على حمار، وكان معاذ رديفه، فقال : «يا معاذ ؟» فقال : لبيك يا رسول الله وسعديك . قال : «ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، صدقا من قلبه إلا حرمه الله على النار». وفيهما أيضاً من حديث عمر بن أبي سلمة أنه قال : كنت غلاماً في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم  وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا غلام، سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك».

عباد الله : إن تعليم الناس أمر عظيم، حتى إنه صلى الله عليه وسلم ليقدمه على غيره من العبادات، عند (م) من حديث رفاعة العدوي قال : انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، فقلت : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ! رجل غريب يسأل عن دينه لا يدري ما دينه، قال : فأقبل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وترك الخطبة حتى انتهى إليَّ، فأُتيَ بكرسي حسبت قوائمه حديداً، قال : فقعد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم  وجعل يعلمني مما علمه الله، ثم أتى خطبته فأتم آخرها . ولئن كان صلى الله عليه وسلم يعلم الناس بأقواله وأفعاله، فلقد كان يعلمهم بأخلاقه، يقول معاوية بن الحكم السلمي كما عند (م) : بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم  إذ عطس رجل من القوم، فقلت وأنا أصلي : يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت : واثُكْلَ أُمِّيَاه ! ما شأنكم تنظرون إليَّ، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني، لكني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم  فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كهرني، ولا ضربني، ولا شتمني، وإنما قال : «إن هذه الصلاة، لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» .

عباد الله : بمثل هذه التربية منه صلى الله عليه وسلم علَّم أمته كل شيء، حتى بلغ من ذلك أن بعض المشركين قال لسلمان الفارسي: إنا نرى صاحبكم يعلمكم كل شيء قال سلمان : نعم، لقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم  كل شيء، حتى الخِراءة .

فجدير بكل ذي علم وبصيرة أن يرجع إلى كتاب ربه، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وأن يستمسك بهما، ويعمل بما فيهما.

الخطبة الثانية:

الحمد لله :

عباد الله : العلم صفة الباري، وميراث الأنبياء، ورد في فضله ما لا يحصى من الآيات والأنباء، وهو أشرف مطلوب، وأجل موهوب، وهو شرف الدهر، ومجد العصر، به يُعبِد الدَّيان، ويُنصب الميزان، وتُعرف شرائع الإسلام، ويُميَّز بين الحلال والحرام، وتُوصل الأرحام، ويُحل كل نزاع وخصام، وتبنى العبادات، وتُشرح المعاملات، ويُدلُّ به إلى الجنة، ويُرشد به إلى اتباع السنة، بالعلم تدرك المراكب الفاخرة، وتنال سعادة الدنيا والآخرة، يزيد بالانفاق، ووقع على فضله الاتفاق، معظم في كل ملة، وبه تقوم قواعد كل نحلة، نعم الأنيس في الوحدة، والمعين على الشدة، محبوب طبعاً، معظم عادة وشرعاً، وكفاه شرفاً أن كل أحد يدعيه، وكل ذي فطرة سليمة يقصده وينتحيه، وأنه ينال بالهمم لا بالرمم، يدرك بالاجتهاد والجد، لا بالاتكال على الأب والجد .

يقول ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم  عبد الله بن عباس : لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم  قلت لرجل من الأنصار : يا فلان، هلم فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم  فإنهم اليوم كثير، فقال : واعجباً لك يا ابن عباس ! أتُرى الناس يحتاجون إليك، وفيهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم  من ترى ؟ قال ابن عباس : فترك ذلك، وأقبلت أنا على المسألة، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل، فآتيه وهو قائم، فأتوسد ردائي على بابه، فتسفي الريح على وجهي التراب، فيخرج فيراني، فيقول : يا ابن عم رسول الله، ما جاء بك ؟ ألا أرسلت إليَّ فآتيك، فأقول : أنا أحق أن آتيَك، فأسأله عن الحديث، قال : فبقي صاحبي الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع الناس عليَّ، فقال : كان هذا الفتى أعقلَ مني .

عباد الله : إنما يحصل العلم بخدمته كل حين، وطلبه ليعبد رب العالمين، وطي الليل والنهار في تحصيله، والسهر على مذاكرته وتفصيله، ومدارسة مؤلفاته، وتقييد أوابده، وحفظ شوارده، وتكرار متونه، ومعرفة عيونه . فمن طلبه بصدق، وحرص عليه بحق، فهو مهاجر إلى الله ورسوله، فعليكم بالعلم، والفهم .. الفهم . واعلموا أن السابقين ما نالوا من العلم ما نالوه، إلا بالمشقة والمكابدة، وإننا لن نصل إلى مثل ما وصلوا إليه في وقتهم، إلا بمثل ذلك العناء والمكابدة . وإنه وإن تعددت وسائل التعليم وطرائقه، إلا أنه بقدر ذلك تتعدد المغريات والملهيات، وإن خطرها وتأثيرها لمن أشد ما يواجه المعلم في هذا العصر .

 فاتقوا الله عباد الله، وتواصوا بينكم بالحق، وتواصوا بالصبر . اللهم إنا نسألك علماً نافعاً، وقلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراً .