الموعظة بسورة ( ق)

بسم الله الرحمن الرحيم

الموعظة بسورة ( ق )

14 / 8 / 1429 هـ ( ج )

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا، أنزله هدى للمتقين، وعبرة للمتعظين، فأحيا به القلوب، وأصلح به الأعمال، وذكّر به من الغفلة، وهدى به من العمى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليخ وسلم ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما أما بعد:

عباد الله: لقد كان رسول الله صلى الله عليخ وسلم يعظ الناس بالقرآن الكريم، الذي جعله الله تعالى نورا وهداية، فلا شيء أشفى لمرض القلوب من القرآن، ولا شيء أقوم للأحوال من القرآن: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ ولقد كان النبي صلى الله عليخ وسلم يخطب الناس بسورة ق والقرآن المجيد؛ لأنها سورة عظيمة، ذُكر فيها المبدأ والمعاد، مبدأ الإنسان منذ خلقه الله، وذِكرُ أحواله وأعماله وغايته.

ابتدأ الله هذه السورة بالإنكار على المكذبين، الذين كذبوا رسوله محمدا صلى الله عليخ وسلم وأنكروا ما جاء به من البعث والحساب، وقالوا: ﴿ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ﴾. فبين الله سبحانه أنهم حينما كذبوا بالحق لما جاءهم، اختلط عليهم الأمر، والتبست عليهم الحقائق، ﴿فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ﴾ وهكذا كل من كذب بالحق، لا بد أن تلتبس عليه الحقائق، وتختلط عليه الأمور، فلا يعرف الحق من الباطل، ولا الصالح من الفاسد.

ولقد نبه الله هؤلاء المكذبين بالبعث، على قدرته على ذلك، بما يشاهدونه من هذه المخلوقات العظيمة، الدالة على قدرته البالغة: ﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ﴾ - وهي الجبال - ﴿وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ﴾.

ففي مد الأرض، وبناء السماء، وتزيين الأرض بالنبات البهيج، والسماء بالنجوم النيرة، في هذا كله تبصرة وذكرى، يتبصر بعقله، ويتذكر بفكره، تمام قدرة الله تعالى وحكمته، ونبه سبحانه على قدرته على البعث، بما يشاهده الناس من إنزال المطر من السماء، وإخراج النبات به من البساتين والحبوب: ﴿وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ﴾ ثم حذر الله هؤلاء المكذبين، مما فعله بالمكذبين السابقين، الذين حق عليهم وعيد الله بعذابه ونكاله، وقرر سبحانه وتعالى قدرته على إعادة الخلق مرة ثانية، بقدرته على الخلق الأول، فتقرر بهذا قدرته تعالى على البعث، بالأدلة العقلية والحسية.

ثم بين الله في هذه السورة حال الإنسان من أول خلقه، وعِلْمُ الله سبحانه بتلك الحال، وقربُه منه، وأنه سبحانه يعلم ما توسوس به نفسه، فضلا عما يعمله ويظهره ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ وبين الله تعالى أن مع كل إنسان ملكين، يتلقيان ما يعمله من قول أو فعل ﴿إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ رقيب حاضر يكتب كل ما يلفظ به، وكل ما يفعله، ونهايةُ هذا الإنسان، فراق دار العمل إلى دار المستقر، فراق الدنيا إلى الآخرة.

﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ﴾ إنها سكرة فراق الأهل، إنها سكرة فراق المال، إنها سكرة فراق الدار،- الدارِ التي ألفها منذ خروجه من بطن أمه -، إنها سكرة فراق العمل الذي كان يؤمله ويتمناه، ليس العمل من أجل الدنيا، التي هو حينذاك مودع لها، ولكنه العمل من أجل الآخرة، التي هو حينذاك مستقبل لها: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ .

إنها سكرة الموت بالحق، لا سكرة الهوى، ولا سكرة الخمر واللذة: ﴿ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾ وتهرب، ولكن لا مفر من الموت ولا مهرب: ﴿ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ﴾ إنه ملاقيكم من أمامكم، وهل يمكن أن تفر مما هو ملاق لك ؟ ثم يبين الله تعالى في هذه السورة، حال يوم القيامة، يوم الحساب والجزاء: ﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا ﴾ في الدنيا نسيت يوم القيامة، وغفلت عنه حتى فاجأك: ﴿ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴾ وفي ذلك اليوم تُحْضرُ الأعمال، ويجازى العامل، ويلقى ﴿ في جهنمَ كل كفَّارٍ عنيد * مناع للخير معتد مريب * الذي جعل مع الله آلها آخر فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ ﴾ وفي ذلك اليوم، تُقَرّب الجنة للمتقين غير بعيد، يسكنها كل من خشي الرحمن بالغيب، وجاب بقلب منيب.

فاتقوا الله: عباد الله، واعملوا لذلك اليوم، واستعدوا له، فإنه اليوم الذي يحق لكل عاقل أن يعمل له، ولكل حازم أن يستعد له.

 الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:

عباد الله: اتقوا الله تعالى وتدبروا كتابه، الذي أنزله الله رحمة بكم، وموعظة لكم، وإصلاحا لدينكم ودنياكم، ولا تُعرضوا عنه، فتبوؤا بالخسارة وقسوة القلوب، والبعد عن خشية علام الغيوب .

إن القرآن موعظة من ربكم، وشفاء لما في صدوركم، ولا شيءَ أبلغ موعظة منه لمن تدبره وتفكر معناه، ولقد كان رسول الله صلى الله عليخ وسلم يخطب به في الجمعة كثيراً قالت أم هشام: أَخَذْتُ ﴿ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ﴾ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهُوَ يَقْرَأُ بِهَا عَلَى الْمِنْبَرِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ.

أَعُوذُ بِالله ِمِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنْذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ * أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ * رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الأيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ * أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ * وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ * قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ * قَالَ لاَ تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ * يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ ذَلِكَ يَوْمُ الُخُلُودِ * لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ * وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلاَدِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ * وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ * إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ﴾