النار وأهلها

بسم الله الرحمن الرحيم

النار وأهلها

أيها المسلمون، خلق الله الخلقَ ليعبدوه، ونصبَ لهم الأدلةَ على عظمته ليخافوه، ووصف لهم شدة عذابه ودار عقابه ليكون ذلك قامعاً للنفوس عن غيِّها وفسادها، وباعثاً لها إلى فلاحها ورشادها. فاحذروا ما حذَّركم ، من النار التي ذكر في كتابه وصفها، وجاء على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم نعتُها. دارٌ اشتدَّ غيظُها وزفيرها، وتفاقمت فظاعتها وحمي سعيرُها، شعثاء موحشة، دهماء محرقة ﴿لاَ تُبْقِى وَلاَ تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لّلْبَشَرِ﴾ لا يطفأ لهبُها، ولا يخمد جمرُها، دارٌ خُصَّ أهلها بالبعاد، وحرموا لذة المنى والإسعاد ﴿جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ

أرهب ذكرها قلوبَ الخائفين، فتوكَّفت العبرات، وترادفت الزفرات، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا»، قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ قال: «رأيت الجنة والنار» (م) ويقول النعمان بن بشير رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ويقول: «أنذرتكم النار، أنذرتكم النار»، حتى وقعت خميصة كانت على عاتقه عند رجليه (حم)

أيها المسلمون : «الجنة أقربُ إلى أحدكم من شراك نعله، والنارُ مثل ذلك»

يؤتَى بجهنمَ يوم القيامة تطفح من شدة الغيظ والغضب، ويوقن المجرمون حين رؤيتها بالعطب، وتجثو الأمم حينئذ على الركب، ويتذكر الإنسان سعيه ﴿وَأَنَّىٰ لَهُ ٱلذّكْرَىٰ (23) يَقُولُ يٰلَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى﴾ قعرها وعمقها سبعون خريفاً، يقول النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع وجبةً «هذا حجر رُمي به في النار منذ سبعين خريفاً، فهو يهوي في النار الآن حتى انتهى إلى قعرها» (م)

وينصب الصراط على متن جهنم ، فيمر المؤمنون على قدر أعمالهم، كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل ، فناجٍ مسلَّم، ومخدوش مرسل في نار جهنم.

منهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه إلى حجزته، ومنهم من تأخذه النار إلى ترقوته . يُساق أهلها إليها، خائفون وجلون، يُدَعُّون إليها دعًّا، ويُدفعون إليها دفعاً، يُسحبون في الحميم ثم في النار يسجَرون . النار تغلي بهم كغلي القدور ﴿إِذَا أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقًا وَهِىَ تَفُورُ﴾ يستغيثون من الجوع ، فيغاثون بأخبث طعام ، أُعِدَّ لأهل المعاصي والآثام ﴿إِنَّ شَجَرَةَ ٱلزَّقُّومِ (43) طَعَامُ ٱلأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي البُطُونِ (45) كَغَلْىِ ٱلْحَمِيمِ﴾ ويُغاثون بطعام من ضريع، لا يسمن ولا يغني من جوع، شوكٍ يأخذ بهم لا يدخل في أجوافهم ، ولا يخرج من حلوقهم، ويغاثون من غسلينِ أهل النار، وهو صديدهم ودمهم الذي يسيل من لحومهم، فإذا انقطعت أعناقهم عطشا وظمأ، سُقوا من عين آنية، قد آن حرُّها، واشتدَّ لفحها، وأغيثوا بحميم يقطِّع منهم أمعاءً طالما امتلأت بأكل الحرام، ويكسر منهم أعضاء طالما أسرعت إلى اكتساب الآثام، ويشوي منهم وجوها طالما توجَّهت إلى معصية الملك العلام ﴿بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً

و«إن أهونَ أهل النار عذابًا من له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل، ما يرى أن أحداً أشد منه عذاباً، وإنه لأهونُهم عذاباً»

يعانون في جهنم ما بين مقطَّعات النيران ، وسرابيل القطران ، ما يقطِّع الأكباد ، ولا تطيقه الجبال الصمُّ الشداد، يتجلجلون في مضائقها، ويتحطَّمون في دركاتها، ويضطربون بين غواشيها، مقرَّنين في الأصفاد، أثقلتهم السلاسلُ والأغلال والقيود، قد شدَّت أقدامهم إلى النواصي، واسودَّت وجوههم من ذلِّ المعاصي، لهم فيها بالويل ضجيج، وبالخلاص عجيج، أمانيهم الهلاك، وما لهم من أسر جهنم فكاك ﴿وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيقِ

وتؤصد عليهم الأبواب، ويعظم هناك الخطب والمصاب ﴿لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلّ بَابٍ مّنْهُمْ جُزْء مَّقْسُومٌ﴾ ويلقى عليهم البكاء والحزن، فيصيحون بكِيًّا من شدَّة العذاب ﴿يٰمَـٰلِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّـٰكِثُونَ﴾ فحزنهم دائم فما يفرحون، ومقامهم محتوم فما يبرحون، يبكون على ضياع الحياة بلا زاد، وكلما جاءهم البكاء زاد، فيا حسرتهم لغضب الخالق، ويا فضيحتهم بين الخلائق، ينادون ويصطرخون  ﴿رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَـٰلِمُونَ﴾ ينادون إلهاً طالما خالفوا أمره، وانتهكوا حدوده، وعادَوا أولياءَه، ينادون إلهًا حقَّ عليهم في الآجلة حكمه، ونزل بهم سخطه وعذابه ﴿قَالَ ٱخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ﴾ لا يُرحَم باكيهم، ولا يجاب داعيهم، قد فاتهم مرادُهم، وأحاطت بهم ذنوبهم، ولا يزالون في رجاء الفرج والمخرج حتى ينادي مناد: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت ﴿إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَىٰ

الخطبة الثانية

جثت الأمم على الركب، وتبين للظالمين سوءُ المنقلب، انطلق المكذبون إلى ظل ذي ثلاث شعب، لا ظليل ولا يغني من اللهب، وأحاطت بهم نارٌ ذاتُ لهب، سمعوا الزفير والجرجرة، وعاينوا التغيظ والزمجرة، ونادتهم الزبانية ﴿فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى المُتَكَبِّرِينَ﴾ الهاوية تجمعهم، والزبانية تقمعهم ﴿وَتَرَى المُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وَجُوهَهُمُ النَّارُ﴾ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون، وبالنواصي والأقدام يؤخذون، وفي الحميم ثم في النار يسجرون

فلو رأيتم أهل النار ، وقد أُسكنوا داراً ضيقة الأرجاء، مظلمة المسالك، مبهمة المهالك، قد شدت أقدامهم إلى النواصي، واسودت وجوههم من ظلمة المعاصي، يسحبون فيها على وجوههم مغلولين ، النار من فوقهم ومن تحتهم ، وعن أيمانهم وعن شمائلهم ﴿لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ﴾ فهم بين مقطعات النيران ، وسرابيل القطران ، وضرب المقامع، وجر السلاسل، تغلي بهم كغلي القدور ، وهم يهتفون بالويل ويدعون بالثبور ﴿يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءوسِهِمُ ٱلْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِمْ وَٱلْجُلُودُ﴾ يزيد عذابهم شدة، تذكرهم ماذا فاتهم بدخول النار. لقد فاتهم دخولُ الجنان، ورؤية وجه الرحمن، ويزيد حسرتهم حسرة ، أن هذا العذاب الأليم ، والهوان المقيم ، ثمنٌ اشتروه للذةٍ فانية، وشهوةٍ ذاهبة، لقد باعوا جنة عرضها السماوات والأرض بثمن بخس، دراهم معدودة .  بشهوات تمتعوا بها في الدنيا ثم ذهبت وذهبوا فكأنها وكأنهم ما كانت وما كانوا.

عباد الله، تلك بعضُ أوصاف النار وأحوال أهلها، فاستعيذوا بالله من النار، ومن قول أو فعلٍ يقرِّب إلى النار، فإنكم اليوم في عصرِ فتنٍ تترى، وشرور تتوالى، فتن شبهاتٍ وشهوات، يرقِّق بعضها بعضا، قد ثار نقعها وآلم وقعها، تأخذ كل من استشرف إليها يقول صلى الله عليه وسلم «حُجبت الجنة بالمكاره، وحجبت النار بالشهوات» (خ)

فاحتموا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، واعلموا أنكم في أيام مُهل، من ورائها أجل، ويحثُّه عجل، فمن لم ينفعه حاضره، فعاجله عنه أعوز ، وغائبه عنه أعجز، وإنه لا نومَ أثقلُ من الغفلة، ولا رقَّ أملكُ من الشهوة، ولا نذيرَ أبلغ من الشيب ،ولا مصيبةَ كموت القلب، ولا مصيرَ أسوءُ من النار .

عباد الله: أنقذوا أنفسَكم ومن تحت ولايتكم من النار، واعلموا أن إضاعةَ الصلوات والتشبهَ بالكافرين والكافرات ، والنظرَ إلى المحرمات ، والتبرجَ والسفور ، وشربَ الخمور كلّها من عمل أهل النار، وكل معصية لله ورسوله صلى الله عليه وسلم فهي من عمل أهل النار ﴿وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَـٰلِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ

اتقوا النار بالبكاء من خشية الله؛ فلن يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، وعينان لا تمسهما النار؛ عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله.